سلسلة التوحيد عند السادة الصوفية: فتح العلي بتوضيح معنى الولي الأولياء ودعوى سقوط التكاليف عنهم -3- أبو محمد عادل خزرون التطواني

ويبدو أن للكشف الصوفي علاقة قوية بترك التكاليف على حد ما أورده عنهم الشيخ سعيد حوى في قوله: “يربط بعض الصوفية بين الكشف وترك التكاليف، فيرون أن الإنسان متى كشف له شيء من أمر الغيب -وما أكثر ما يتوهون في هذا الشأن- سقط عنه التكليف، فلا صلاة ولا صيام ولا غير 1ذلك، ويستشهدون على ذلك بقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} .
وأما المتصوفة فيقولون بكل هذا، سالكين مسلك هؤلاء الضالة المنحرفين، ففي كتاب مقالات الإسلاميين للإمام أبي الحسن الأشعري رحمه الله: (وفي النساك قوم يزعمون أن العبادة تبلغ بهم إلى درجة تزول فيها عنهم العبادات، وتكون الأشياء المحظورات على غيرهم من الزنا وغيره مباحات لهم2 .اهـ. 3وقالوا: إذا وصلت إلى مقام اليقين سقطت عنك العبادة، مؤولين قول الله عز وجل: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} .
فهم تأولوا قول الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} على أن من بلغ مرتبة اليقين سقط عنه التكليف، وهو تفسير باطل بلا شك، لأن المخاطب بالآية أصالة هو النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتفسير الآية على وفق ما ذهب إليه هؤلاء النساك يدل على أن النبي لم يصل رتبة اليقين في إيمانه إلى أن مات -عليه الصلاة والسلام-، والواقع خلاف ذلك فالنبي -صلى الله عليه وسلم- هو أعظم الأمة إيماناً وأشدها يقيناً، ومع ذلك كان أشدهم تمسكاً بالطاعة وبعداً عن المعصية، فدل على أن تفسيرهم للآية باطل، وأن الصحيح في تفسير الآية هو ما ذهب إليه المفسرون من أن المراد باليقين هو الموت، وأن الله أمر نبيه بملازمة الطاعة حتى يتوفاه إليه، وهو ما فعله -صلى الله عليه وسلم- حيث كان حريصاً على الصلاة والذكر والمسارعة في الخيرات والطاعات، حتى في آخر حياته، وهو ينازع الموت، فكان يخرج إلى الصلاة أو يؤديها في فراشه، فأين هذا ممن اتخذ دينه هزوا ولعباً، وترك العبادات، وارتكب الموبقات، زاعماً أنه وصل إلى اليقين، فأيُّ يقين هذا الذي وصل إليه؟!!
ولقد أقر صوفي قديم بوجود هؤلاء المتصوفة ومن هم على منوالهم -وما أكثرهم- فقال:
(وأرتحل عن القلوب حرمة الشريعة، فعدّوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة، ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام، ودانوا بترك الاحترام، وطرح الاحتشام، واستخفوا بأداء العبادات، واستهانوا بالصوم والصلاة، وركضوا في ميدان الغفلات، وركنوا إلى إتباع الشهوات، وقلة المبالاة بتعاطي المحظورات، والارتفاق بما يأخذونه من السوقة والنسوان وأصحاب السلطان.
ثم لم يرضوا بما تعاطوه من سوء هذه الأفعال، حتى أشاروا إلى أعلى الحقائق والأحوال، وادعوا أنهم تحرروا من رقّ الأغلال، وتحققوا بحقائق الوصال، وأنهم تجري عليهم أحكامه وهم محو، وليس لله عليهم فيما يؤثرونه أو يذرونه عتب ولا لوم، وأنهم كوشفوا بأسرار الأحدية، واختطفوا عنهم بالكلية، وزالت عنهم أحكام البشرية، وبقوا بعد فنائهم عنهم بأنوار الصمدية، والقائل عنهم غيرهم إذا نطقوا، والنائب عنهم سواهم فيما تصرفوا، بل صرفوا.
ولما طال الابتلاء فيما نحن فيه من الزمان بما لوّحت ببعضه من هذه القصة، وكنت لا أبسط إلى هذه الغاية لسان الإنكار، غيرة على هذه الطريقة أن 4يذكر أهلها بسوء أو يجد مخالف لثلبهم مساغا، إذ البلوى في هذه الديار بالمخالفين لهذه الطريقة والمنكرين عليها شديدة) .
فعن هؤلاء قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فكل الرسل دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإلى طاعتهم والإيمان بالرسل هو الأصل الثاني من أصلي الإسلام، فمن لم يؤمن بأن هذا رسول الله إلى جميع العالمين وأنه يجب على جميع الخلق متابعته، وأن الحلال ما أحله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه فهو كافر مثل هؤلاء المنافقين، ونحوهم من يجوز الخروج عن دينه وشريعته وطاعته، إما عموما أو خصوصا.. ويعتقدون مع هذا أنهم من أولياء الله، وأن الخروج عن الشريعة المحمدية سائغ لهم، وكل هذا ضلال وباطل، وإن كان لأصحابه زهد وعبادة5) .
وقال الحافظ ابن حزم الظاهري:
(ادّعت طائفة من الصوفية أن في أولياء الله تعالى من هو أفضل من جميع الأنبياء والرسل، وقالوا:
من بلغ الغاية القصوى من الولاية سقطت عنه الشرائع كلها من الصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك، وحلت له المحرمات كلها من الزنا والخمر وغير ذلك، واستباحوا بهذا نساء غيرهم، وقالوا بأننا نرى الله ونكلمه، وكلما قذف في نفوسنا فهو حق.
ورأيت لرجل منهم يعرف بان شمعون كلاما نصه أن لله تعالى مائة اسم، وأن الموفي مائة هو ستة وثلاثون حرفا ليس منها في حروف الهجاء شيء إلا واحد فقط، وبذلك الواحد يصل أهل المقامات إلى الحق. وقال أيضا: أخبرني بعض من رسم لمجالسة الحق أنه مدّ رجله يوما فنودي: ما هكذا مجالس 6الملوك، فلم يمدّ رجله بعدها. يعني أنه كان مديما لمجالسة الله تعالى) .
ولذلك قال أبو علي وفا:
7وبعد الفنا بالله كن كيف ما تشا فعلمك لا جهل وفعلك لا وزر
ونقل الدكتور عبد الحليم محمود قاعدة عامة للصوفية بقوله: (اعرف الله وكن كيف شئت8) .
هذا ولقد ورد في كتب الصوفية حكايات كثيرة لا تعدّ ولا تحصى، تدل على إتيان المتصوفة المنكر، وإباحتهم المحظورات، وتركهم الواجبات، ومع ذلك عدّوهم من أولياء الله وكبار المستجابين عند الرب تبارك وتعالى عما يقوله الأفاكون علوا كبيرا، عن أن يختار الفسقة الفجرة أولياءه وأصفياءه.
ومن جانب آخر يذكر الشعراني صوفيا آخر صاحب كشف، فيقول: (سيدي شريف رضي الله عنه ورحمه كان يأكل في نهار رمضان، ويقول أنا معتوق، 9أعتقني ربي .
ومثل هذا يذكرون عن أبي يزيد البسطامي أنه (أخرج من كمّه رغيفا، وأخذ في أكله في المدينة، وكان هذا في شهر رمضان10) .
وينقلون عن الشبلي أنه كان يقول: (يا ويلاه، إن صليت جحدت، وإن لم أصلّ كفرت11) .
وللبحث بقية إن شاء الله تعالى..
—————————–
1 – الحجر:99.
2 – مقالات الإسلاميين للأشعري ص:289.
3 – إتحاف السادة للزبيدي 8/ 278.
4 – الرسالة القشيرية:1/22-23-24
5 – مجموعة الرسائل والمسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية ص:44-45.
6 – الفصل في الملل والأهواء والنحل للحافظ ابن حزم 4/ 226.
7 – كتاب سيدي أحمد الدردير للدكتور عبد الحليم محمود ص:95.
8 – المدرسة الشاذلية الحديثة وإمامها أبو الحسن الشاّذلي ص:53 .
9 – طبقات الشعراني 2/151
10 – كشف المحجوب للهجويري ترجمة عربية ص:262
11 – التعرف للكلاباذي ص:163.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *