نماذج من الناس نذروا حياتهم للتعتيم على دعوة الحق، وأقسموا جهد أيمانهم على أن يجعلوا بين الناس والحق سدا وردما، وأن يحولوا بين نور الهدى وناشدي الهروب من ظلمة الزبد بالنار والقطر والآنك.
وبغض النظر عن القصد من عدمه ساهم هؤلاء في ضياع الحقيقة وتواريها خلف سواتر الجهل، واحتجابها وراء أكفان الهوى، فكان أن قضى الناس عمرهم صرعى أوهام عاصفة وأساطير طامسة، ضاع الكثير والحجةعليهم قائمة، ضاع الكثير وقرآننا يتلى تلاوة تجلو الغشاوات التي سادت زمن الجاهلية، ضاع الكثير وسنة سيد الخلق غضة طرية تحذر العميان عقبى الهلاك، ضاع الكثير ودعوة ورثة الأنبياء تغري المخاطبين بالنعيم المقيم وسبيله المستقيم، ومن هذه النماذج عازف موسيقى وموزع رئيس فرقة للمكاء والتصدية، رجل عاش حينا من الدهر موؤودا تحت طيات الأثير ظاهرة صوتية مترهبنة تسبح بحمد سكان القبور وأجنة القباب والأضرحة ويتعبد إنابة وإخباتا بملاعبة أوتار آلة القانون!
بغثة صار لصاحب هذا الصوت والمناجاة إطلالة هيئة وصورة، فقد جاء تلفزتنا هذا البشير ذو الوجه الحليق واللسان السليق، وتشكلت عند مريدي مقاماته صورته الذهنية بوقفة أمامية وقفطان أخضر تارة، ومزركش تارة أخرى..، قفطان أصيل الصنعة ويدان متشابكتان ونظرات خاشعة تفيض لوعة ومحبة لصاحب القبر الذي تبدو قبته خلف هذا السارد، في إخراج تلفزي بديع.
وكما يقف الرافضي ليلعن النواصب ويؤله عوازم دعواه بدءا بالمرتضى والمجتبى والشهيد والصدر والباقر والحكيم والعسكري ونهاية عند مهدي السرداب وقرآن فاطمة..يقف عازف الليل هذا ليشنف الآذان بذكر مناقب أبي يعزى وشمائل الرجال السبعة وكرامات أبي رحال ومعجزات “بويا عمر” وكشوفات ابن عربي وخوارق الصوفية وأولياء الله أئمة الهدى ومصابيح الدجى خاصة الله وأحبابه يتم هذا السرد التعبدي ويتوالى توصيف الغرانيق بصفات الربوبية ونعوت الألوهية، ولقد ألقيت السمع مرة فوجدت الرجل قد وسم صاحب قبة بأربعة وأربعين لقبا وصفة تنوء بحملها الجبال، كيف لا؟ وقد جاء عن صاحبنا أن صاحبه رضي الله عنه وقدس سره هو: الفرد الصمداني والقطب الرباني الواصل الموصل الكامل المكمول وحيد زمانه وأوحد أقرانه…
ولا ضير في ذلك عند صاحبنا ومن يشاكله في عقيدته التي مفادها أن الشرق مهبط الوحي وأرض الرسالات والأنبياء بينما المغرب مجمع البحرين أرض الأولياء، ومهد الكرامات، ومرتع الحقائق والكشوفات وسرير المنامات، إننا اليوم ونحن نرى تحرك هذه الجحافل المقيتة ناشطة في نقل سموم الخرافة النجسة إلى دورة الدم الطاهرة ناشطة في ضرب أسوار البدعة العالية، وتحريك أمواج الشبهات العاتية الرامية إلى حجب بنيان القرون الخيرة المتطلعة إلى مسخ أصول المحجة البيضاء، غرضها إخراج أجيال جديدة تتمتع بقطيعة مع سنة سيد الخلق على خصومة مع منهج الصحب الكرام، أجيال متشبعة ببدائل ساهمت في تهوين التراث الإسلامي المشرق، بدائل ساعدت على صرف المسلمين عن إعزاز المنهج الحق، والأخذ بزمام تركته البيضاء النقية.
وإذا كان الكثير من أهل العلم قد التزم صنعة السكوت وصنيع تأخير البيان عن ساعة الحاجة إليه ضد هؤلاء المخرفين، ظنا منهم أن ما للناس من طباع سليمة كفيل بأن يحول دون رفع الثقة بأولئك وسيحجزهم عن تصديق محالهم، فإننا اليوم وقد رأينا رأي العين ما كان لهؤلاء المهرطقين من أدعياء المجد ولصوص القداسة والشرف من تأثير وأثر على النفوس البريئة الناشدة لبر النجاة ونيل رضا رب الأرض والسماوات، مطالبين شرعا بدفع هذا الصائل العادي والمارق من قسي أصحاب العمائم السوداء، أولئك الرجال الذي غرَّنا ظاهرهم الثائر، فلم نلتفت إلى باطنهم القذر إلا وهم يدلفون بين ظهرانينا إلى مقاصدهم الدنيئة، ويصوبون على مرأى ومسمع منا سهامهم الغادرة إلى نحور أسلافنا الأبرار رعيل القرآن وجيل الصحبة بامتياز.
إننا اليوم ونحن نواجه هذا المد الشيعي سيالته القبورية القذرة، نحتاج إذا كنا صادقين في دعوانا إلى أن نعرج على تنقية جبهتنا الداخلية من هذه الشوائب المشبوهة والبؤر المدخونة، التي ساهمت في تسلل الفكر المجوسي إلينا لواذا.
وإذا كان خطباء المنابر قد أشهروا بتحيين سياسي سيف المقاومة وسنان الإباء في وجه عباد النار، وأعلنوها من على مواقعهم المباركة، أن المغرب كان وسيبقى ملتزما ثغر أهل السنة والجماعة، فإن الموقف كما سلف يحتاج إلى التفاتة لهذه الوثنية التي كرت علينا تبغي إيجاد موقع قصي وإيلاد نموذج مناوئ لجسد الأمة الموحد، ومن تم المراهنة على إنفاذ عهود الذئاب المتربصة، وجدير بالإشارة أن هذه الالتفاتة وهذا التعريج صار اليوم واجبا عينيا وفرضا دينيا على كل موحد يهمه أمر أمته وقضية عقيدته..
فلا مصطلح السنة يقتضي هذه المظاهر التي صار فيها الشواذ من المحبين، وصار أكل الشوك وشرب الماء الساخن وعجن الزجاج وولغ الدم المسفوح ودخول الأفران الحامية وشق الجيوب، وجلد الظهور المصاحب لضرب الطبول والنفخ في الناي والمزمور من علامات الولاية والقرب، ولا مصطلح الجماعة يجيز للبعض نفخ الروح في رموس الرفات والرميم والمبالغة في إغداق أوسمة الفضل وتيجان الترضية ومنازل التقديس على أمل أن تحل ذكراها وسِيَرها محل سِيَر وذكرى جيل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في نفوس أهل “الإسلام الجغرافي” حتى إذا حصل ذلك وتمكن من نياط القلب وتجاويف الشرايين فتحت علينا يأجوج وماجوج القبورية غارات الكر، فشاع بيننا التعبد بسب الصحابة والنيل من عرض بيت النبوة وهان علينا الطعن في سير الراشدين المهديين، فهم إن كانوا رجالا فإن لنا اليوم رجال خوالف نتعبد الله بحبهم وذكر شمائلهم وكراماتهم وقبورهم الحبلى بمعاني الإجلال والتقديس، ولا تستبعد بعد هذا حصول ذلك الانتقال النكد بسلاسة لا مثيل لها وبسند منقطع يُخرج من بين صلب خرافته وترائب بدعته جيلا لا يعرف لأبي بكر فضلا، ولا يقر لعمر بعدل، ولا يدين لعثمان بحياء، جيل تقر به عين الشيطان، وتغتم من صنيعه قلوب عباد الرحمن، حينها فقط، وإن كان في العمر بقية سنعرف أن من كان يقف وراء بث هذه الأفكار الحائدة، ويستكثر من تزكية هذه النفوس الكائدة، ويغدق على أديرتها المال ويفتح لها هامش التسلط وباب التكالب، ويطيل سبابة اتهامها لتنال من عين المنهج البكاءة المرابطة عند ثغور التوحيد والتصفية، سنعرف حينها أن وقت هذا المستكثر وعدة هذا المغدق لم تذهب سدى، فقد ناب عنه مواليه في الفتك بكل تفان والبغي بكل إخلاص والخيانة بكل أمانة.
ولكننا نستدرك على هذا الاستشراق بحقيقة أن الله وعد عباده الصالحين بميراث الأرض، وأن أسباب الدفع وكونية التدافع يجريها الله بين عباده، حتى إذا أمهل الكائد بحلمه لم يهمله بعدله، وتلك عين الحكمة التي رتب الله عليها أمور كونه، ودولة أيام دهره، فمن سرته بداية مكره لا بد أن تسوءه نهاية حسرته وهلاكه، وذلك وعد الله ولن يخلف الله وعده “لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ” سورة إبراهيم الآية 13-14.