تحل غدا الذكرى المائوية لحدث تاريخي مهم في الذاكرة الإسلامية، ذكرى محزنة من ذكريات الأمة، التي تبقى شاهدة على حقيقة البلدان “الديمقراطية” التي يراد لنا أن ننسى جرائمها التي ارتكبتها في حقنا نحن المسلمين، بل يراد لنا أن نعتبرها دولا صديقة نقتفي آثارها ونعتقد في نظمها وثقافتها وقيمها ودعاويها للسلام والتعايش والمحبة.
إنها ذكرى وعد بلفور، أو ذكرى “وعْد من لا يملك لمن لا يستحق”.
وعد بلفور ليس مجرد وعد مكتوب في رسالة وجهها اللورد “آرثر جيمس بلفور” وزير خارجية بريطانيا بتاريخ 02 نوفمبر 1917م؛ إلى اللورد “ليونيل وولتر دي روتشيلد” زعيم الصهاينة، يتضمن تأييد الحكومة البريطانية إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، إنه مشروع متكامل لتدبير مرحلة ما بعد تفكيك الخلافة الإسلامية، وتسليم قلب الدول العربية لعدوهم الأكبر، للحيلولة دون أي وحدة عربية تكون مرة أخرى نواة لوحدة إسلامية، تضم المليار والسبعمائة مليون من المسلمين المشتتين في دول خاضعة ملحقة اقتصاديا وثقافيا وسياسيا للدولة الإمبريالية، التي كانت تحتلها خلال عقود الاحتلال الأوربي الذي أسقط نظام الخلافة الإسلامية.
بريطانيا شريكة للصهاينة في كل جرائمهم، من يوم احتلال فلسطين، مرورا بوعد بلفور وتصفية المجاهدين والمقاومين لمشروعها الاستيطاني في المنطقة، وانتهاء بتسليم الدولة بمؤسساتها وإداراتها للصهاينة عند خروجها منها، ثم الاعتراف بدولة بني صهيون في منظمة الأمم المتحدة التي أنشئت عقب الحرب العالمية الثانية والتي كانت بريطانيا من أهم الدول الخمسة التي أنشأت هذه المنظمة في سنة 1945م، لتدبير مرحلة ما بعد حملات الاحتلال وتصفية “الاستعمار” وتقسيم تركة دولة الخلافة الإسلامية العثمانية، وترسيم التنزيل النهائي لمقتضيات اتفاقية سايس-بيكو.
وبالفعل كان الاعتراف بدولة الصهاينة من أولى القرارات التي اتخذتها منظمة الأمم المتحدة، ومنذ ذلك الحين ومجلس الأمن الذي يعتبر الحاكم الفعلي للعالم خصوصا في العلاقات الدولية يحمي الكيان الصهيوني، حيث تتناوب الدول الخمسة الدائمة -وعلى رأسها أمريكا وبريطانيا- على ممارسة حق الفيتو لصالحه، كلما رُفعت قضية من قضايا فلسطين لمنظمة الأمم المتحدة ضد دولة الصهاينة.
بعد انتفاضة المسلمين في فلسطين سنة 1936 من القرن الماضي أَنشأت بريطانيا لجنة سميت بلجنة “بيل” الملكية، وظيفتها إعادة النظر في شكل نظام الانتداب وخلصت إلى تقسيم فلسطين إلى ثلاث دول: دولة يهودية، ودولة تحت الانتداب، وثالثة عربية تضم الفلسطينيين على أن تلحق بدولة الأردن أو ما كان يسمى بشرق الأردن، والتي كانت تعيش تحت حكم ذاتي تابع للانتداب البريطاني، إلا أن الاقتراح رُفض من قِبل العرب، كما رُفض من طرف المؤتمر الصهيوني بـ300 صوتا مقابل 158، لأن أطماع الصهاينة كانت أكثر مما أعطتهم اللجنة. في حين قُبل الاقتراح لكي يكون فقط أساسا للمفاوضات بين السلطة التنفيذية والحكومة البريطانية.
اقتراح اللجنة هذا قوبل باندلاع مقاومة مسلحة واسعة النطاق، جعلت البريطانيين يفقدون السيطرة على القدس ونابلس والخليل، فقامت القوات البريطانية مستعينة بـ6000 صهيوني بجرائم فظيعة في حق الفلسطينيين وذلك لقمع المجاهدين.
أعمال المقاومة هذه أسفرت عن استشهاد 5000 فلسطيني وجرح 10.000، ومقتل 262 جندي بريطاني وجرح 550، ومقتل 300 صهيوني.
وبتتبع تاريخ الانتداب البريطاني في فلسطين يتبين أن إنجلترا الديمقراطية قضت فيها 20 سنة عملت خلالها على تهويدها بشكل منظم، حيث سمحت فيها بالهجرة المتدفقة لليهود، وغطت على نهبهم بالقوة للأراضي مع تسهيل أعمال العصابات الصهيونية مثل الهاجانا وأرجون وغيرهما والتي ستتشكل منها الأحزاب المتطرفة الصهيونية التي لا تزال الْيَوْمَ تُمارس الحكم في الكيان الصهيوني.
كما حرصت بريطانيا قبل انسحابها من فلسطين على أن تعطي الاستقلال للأردن سنة 1946، وذلك تمهيدا للاستيلاء النهائي للصهاينة على فلسطين، وبالفعل تم إعلان اليهود عن قيام دولتهم بعد عامين فقط من خروج آخر جندي بريطاني من القدس، عامان ارتكبت فيهما عصابات الصهاينة أبشع جرائم الحرب التي عرفتها البشرية، تم فيها تقتيل الأطفال والنساء وبقر بطونهن ودفن الرجال أحياء، ولم تكن أبشعها مذبحة دير ياسين، ومنذ ذلك الحين اصطلح على فقدان المسلمين لفلسطين اسم النكبة.
النكبة تلتها النكسة ثم تلتها نكسات تلو النكسات، سرعان ما اتخذت شكل خيانات متسترة باتفاقيات الذل المسماة زورا اتفاقيات السلام، كانت أولاها “كمب ديفيد” وآخرها اتفاقية أوسلو، لنرى الْيَوْمَ تسابقا للعواصم العربية نحو التطبيع مع الصهاينة المجرمين، بل أصبحنا نسمع قادة الدول المنبطحة ينعتون المجاهدين والمقاومين في الأقصى السليب بالإرهابيين، ناهيك عن محاولات تركيع المقاومة للعدو الصهيوني، من خلال دعم حركة فتح التي باعت القضية، واستعمال منظمة التحرير الفلسطينية من أجل تشتيت جهود الفلسطينيين الذين انفضت عنهم أغلب الدول التي كانت رؤساؤها ونظمها تبحث عن مشروعيتها لدى شعوبها بالتظاهر بالدفاع عن الأقصى وفلسطين.
إن الذكرى المائوية لوعد بلفور يجب أن تُجلِّيَ لدينا حقائق من أهمها:
– أن الدول الغربية هي شريك في الجريمة ومدافع عن المجرم وحليف للظالم.
– أن استرجاع حقوق المسلمين في الأقصى وفلسطين لن يكون عبر بوابة الأمم المتحدة علينا، ولا عن طريق مفاوضات السلام.
– أن على المسلمين منظمات وجمعيات وقادة مخلصين أن يعيدوا للقضية بعدها الإسلامي بعد أن تم اختطافها من طرف القوميين العرب العلمانيين الذين باعوها في أول محطة.
– أن أي سلوك للتطبيع مع الكيان الصهيوني هو خيانة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وخيانة لآلاف المسلمين الذين استشهدوا من أجل استرجاع فلسطين والقدس الشريف، وخذلان لإخواننا المرابطين وأخواتنا المرابطات في أولى القبلتين ومسرى رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.
هذه الحقائق يجب أن تجعل الذكرى المائوية لوعد بلفور تدفعنا بقوة إلى القيام بكل ما من شأنه أن ينصر القضية ويبقيها حية لدى الأجيال، ومنه:
– المطالبة بإدخال قضية الأقصى والقضية الفلسطينية كمحور أساس في مقررات التعليم في البلدان الإسلامية، وذلك في مواد التاريخ والأدب والجغرافية والتربية الإسلامية.
– العمل على الكتابة المتتالية في الموضوعات المرتبطة بقضية الأقصى وفلسطين وبيان تواطئ الدول الغربية مع الكيان الصهيوني.
– تخصيص الجمعيات الثقافية للقضية الفلسطينية ببرامج ثقافية وفنية تنعش الذاكرة لدى الأجيال وتربي النشء على واجب تحرير فلسطين والقدس.
– التصدي لكل دعاوى التطبيع مع الكيان الصهيوني وإدانة كل الأعمال التطبيعية مهما صغرت.
إن قضية فلسطين والأقصى ليست قضية الفلسطينيين، بل هي قضية مليار وسبعمائة مليون مسلم، فكيف يليق بِنَا التفريط فيها، بل كيف نتقاعس نحن المسلمين عن نصرتها، في حين نجد أن غالبية دول الغرب أصبحت تنظر إلى استمرار وجود دولة الكيان الصهيوني بمثابة استمرارٍ لوجودها، لذا نراها لا تتوانى في دعمه بكل قوة، ولا تسمح بالمساس به، كما أنها تلقن أبناءها في المدارس أن اليهود مضطهدين في فلسطين، وأن الفلسطينيين هم المعتدون الغاصبون، مستغلين تأثير المحرقة والاحتفال المهول بها.
بل إنها استطاعت أن تسن قوانين تجرم معاداة السامية لتكميم أفواه الأحرار من أبنائها، حماية للكيان الصهيوني من الهجوم والانتقاد لجرائمه المتوالية، وتعدى الأمر الثقافة والتعليم والسياسة لتصبح الكنائس الإنجيلية-الصهيونية التي تهيمن على النشاط الديني في أمريكا والكثير من دول أوروبا تنشر في رعاياها ومريديها عقيدتها الصهيونية التي تؤمن بأن نزول المسيح لن يتم إلا بعد اجتماع يهود العالم في فلسطين وبناء هيكلهم المزعوم.
فكيف لا نعتبر نحن قضية الأقصى مسرى رسولنا الكريم قضيتنا الأولى؟؟
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم الطالب