التصوف السني بالمغرب حقيقة أم خديعة الحلقة الثانية أبو عبد الرحمن ذوالفقار بلعويدي

إن من آفة الآفات التي أصابت بعض الدعاة في زمننا هذا بدعوى جمع الصف تجاوزهم نقط الاختلاف في القضايا العقدية. وذلك تارة تحت ذريعة تحقيق المصلحة ودرء المفسدة، وتارة أخرى تحت ذريعة التعامل بالحكمة، والإصلاح من الداخل.
مما دفعهم إلى تمييع حقائق الأشياء وتجزئة المذهب الواحد وتفتيته إلى مذاهب متنوعة وأجزاء متعددة؛ هذه سلفية علمية وأخرى تقليدية وثالثة جهادية، وهذه أشعرية أصيلة وتلك جوينية، وهذا تصوف سني وسلفي وآخر تصوف بدعي وخرافي، وهكذا حتى افتتنت العامة.
ومما ضاعف من أخطاء هؤلاء أنهم ذهبوا يبحثون عما يؤكد معتقدهم في مسألة تقسيم التصوف، مخالفين تلك القاعدة الحكيمة (الاستدلال قبل الاعتقاد). حيث أجهدوا أنفسهم في التفتيش عن شخصيات لها وزنها بين أهل السنة، لعلهم يجدون في كلامهم ما يؤكدون به دعوتهم ويعضدون به رأيهم في القول بأن من التصوف ما يكون مرجع أهله الكتاب والسنة.

دفع دعوى تقسيم شيخ الإسلام ابن تيمية التصوف إلى سني وبدعي
وممن خاض بهذه الطريقة للأسف الشديد رئيس المجلس العلمي سابقا بمدينة مكناس الدكتور فريد الأنصاري -رحمه الله تعالى- في كتاب (الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب)(1) بقوله “ثم دخلوا -يقصد السلفيين- في مواجهة التصوف مطلقا، بلا تمييز بين أشكاله ومسالكه، ولا بين صالحيه وفجاره!”.
ثم ذكر -رحمه الله- ثناء ابن تيمية على أفراد من كبار المتصوفة وأعيانهم كعبد القادر الجيلاني مثلا.
وابن تيمية رحمه الله كما -سيتضح- لا يتجه ثناؤه على بعض من عرفوا بالتصوف، إلى تقسيم التصوف إلى مذهبين سني وغير سني، وإنما إلى التفريق بين مراتب المنتسبين إليه.
صحيح “أن كل مذهب له سفهاؤه”، لكن غير الصحيح هو أن نجعل لكل صلحاء وسفهاء مذهب؛ مذهب في الصلاح؛ ومذهب في السفه. فكما لا ينبغي منهجيا أن نقول هذا اعتزال سني وآخر اعتزال بدعي، وهذه خارجية سنية وتلك خارجية بدعية، وهذا تشيع سني وآخر تشيع بدعي… بدعوى وجود صلحاء وسفهاء داخل كل مذهب، فكذلك لا ينبغي منهجيا أن يقال هذا تصوف سني وآخر بدعي، أو هذا تصوف الصلحاء وآخر تصوف الفجار والسفهاء.
وذلك لأن التصوف كما هو مقرر في كتب أهله مذهب مستقل؛ له عقيدته وله أصوله التي توحد بين أفراده وتضمن لهم صحة انتسابهم إليه. فالتصوف تصوف بما فيه من أصول مخالفة لأصول أهل السنة، والصوفي صوفي لالتزامه بأصول أهل التصوف بغض النظر عن صلاحه وسفاهته.
وهكذا كل منتسب وإن ادعى التسنن فإن العبرة بأصوله التي يعتمدها في تعامله مع الكتاب والسنة عقيدة وتعبدا؛ فتنبه.
أما على مستوى الأصول والعقائد، فإنه ليس هناك طائفة إسلامية جمعت ألوان الباطل دون أن يكون لها نصيب من موافقة أهل السنة. فالمعتزلة مثلا عندهم من الحق ما وافقوا فيه أهل السنة، ولهم من الباطل ما اختصوا به عن غيرهم من الفرق. وكذا المرجئة، والخوارج.. وكل المذاهب الفكرية؛ وهدى الله أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه.
وإنما لَحِقَ هذه الطوائف الذم بما ابتدعته من أصول وتميزت به من عقائد خالفت بها أصول وعقائد أهل السنة. فما وافقت فيه المعتزلة مثلا الحق هو حق لموافقتها أهل السنة فيه، وهكذا هو الشأن بالنسبة للتصوف على مستوى التمذهب؛ لحِقَه الذم بما فيه من أصول وعقائد مخالفة لأصول وعقائد أهل السنة. لكن ما وافق فيه الحق ونص عليه الشرع  في القرآن والسنة لا يعد تصوفا، كما لا يعد اعتزالا ولا إرجاء ولا خارجية.. ولا يضاف لكل منها إلا ما اختصت به من أصول وعقائد خالفت بها أهل السنة.
فكلام ابن تيمية -رحمه الله- لا علاقة له بهذا التقسيم كما ظن الدكتور فريد الأنصاري -رحمه الله- في كلامه السابق، ولا صاحب البحث الثاني من كتاب «التصوف السني وأعلامه بالمغرب» الذي احتج بدوره بكلام لابن تيمية تأكيدا منه لنفس المسألة؛ أملا في تقرير قضية التقسيم هذه بقوله عن ابن تيمية: (والتحقيق “في التصوف” أنه مشتمل على الممدوح وهو السني، والمذموم وهو البدعي، كغيره من الطريق. والصوفية في ذلك بمنزلة الفقهاء في “الرأي”؛ فإنه قد ذم الرأي من العلماء والعباد طوائف كثيرة)(2).
هذا الكلام نقله صاحب البحث من مجموع الفتاوى لابن تيمية بتصرف منه مع إضافات غير موجودة في الأصل(3) ارتأى فيها زيادة توضيح وبيان، كما أنه حذف أشياء لعله لم ير فيها كبير فائدة(4). لكنه لم يوفق إلى الاحتفاظ على مراد ابن تيمية من كلامه. والذي هو في الأصل بالحرف: (و”التحقيق” فيه أنه مشتمل على الممدوح والمذموم كغيره من الطريق. وأن المذموم منه قد يكون اجتهاديا وقد لا يكون، وأنهم في ذلك بمنزلة الفقهاء في “الرأي” فإنه قد ذم الرأي من العلماء والعباد طوائف كثيرة)(5).
فابن تيمية -رحمه الله- لم يقل أن هناك تصوفين، وهذا غير متبادر لا بصريح كلامه ولا بمفهومه، وإنما أقصى ما تضمنه كلامه -رحمه الله- أن التصوف هو مذهب فيه الممدوح والمذموم، وفيه الحسن والقبيح، وفيه الصواب والخطأ، وهذا ما يفيده قوله “يشتمل”، وهكذا هي كل المذاهب الفكرية وذلك كما سبق بيانه.
شلكن ابن تيمية -رحمه الله- أراد أن يلفت نظرنا إلى أمر مهم -في حق أعيان المتصوفة، لا في حق مذهب التصوف- وهو أن المذموم من مذهب التصوف قد لا يضعه المنتسب إليه لإرادته البدعة، وإنما عن اجتهاد في موافقة السنة فلم يوفق، فيكون له أجر المجتهد المخطئ، وليس حكم المبتدع. وهذا ما يفسر حقيقة قوله -رحمه الله- الذي لم ينقله الباحث: (وأن المذموم منه قد يكون اجتهاديا وقد لا يكون).
من هنا يعلم أن ابن تيمية يريد التفريق بين المنتسبين إلى التصوف وليس بين التصوف نفسه، فالتصوف مذهب واحد له أصوله التي يختلف بها عن أهل السنة، لكن حكم المنتسبين له يختلف من شخص لآخر؛ وذلك باعتبار الاجتهاد أو التقليد أو كل ما يعذر به المنتسب حتى لا يلحقه حكم البدعة.
وهذا يشترك فيه كل أعيان الطوائف المخالفة عندما يتعلق الحكم بمعين، كما هو مقرر في أصول أهل السنة؛ وذلك حتى تقام عليه الحجة بقولهم (ليس كل من وقع في البدعة يقع عليه حكمها).
وعلى تقرير منهج أهل السنة في الاعتدال عند الحكم على الأعيان، جاء كلام ابن تيمية -رحمه الله- في الصفحة الثانية مبينا لمراده من قوله السابق: (وإنما “المقصود هنا” أن ما ثبت قبحه من البدع وغير البدع من المنهي عنه في الكتاب والسنة أو المخالف للكتاب والسنة إذا صدر عن شخص من الأشخاص فقد يكون على وجه يعذر فيه؛ إما لاجتهاد أو تقليد يعذر فيه وإما لعدم قدرته..)(6).
وبهذا يظهر أن قضية نسبة تقسيم التصوف إلى ابن تيمية عموما هي مجرد دعوى لا وجود لها، وتخييل لا حقيقة له، والذين يحاولون تمييع العلاقة بين السنة والتصوف باسم التصوف السني يخطئون فهم التصوف أو يتجاهلون حقيقته. ولو أنهم أمعنوا النظر لعلموا أن التصوف لو كان مستند أصوله الكتاب والسنة لكان هو نفسه الإسلام أو السنة، ولما احتاج إلى إسم إضافي يثبت شرعيته، أو يكسبه تزكية لا يمنحها له الإسم المجرد.

1- ص:157-158.
2- التصوف السني وأعلامه بالمغرب ص:34.
3- المشار إليها بالخط الغليظ.
4- كما سيأتي في النص الأصلي.
5- مجموع الفتاوى 10/370.
6- مجموع الفتاوى 10/371-372.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *