التطــوع بمعـنى آخــر عيسى الراشدي

ابتدأ المشهد يُرسم مع تلك الحبة التي ألقيت على أرض، قلب الفلاح بمحراثه تربتها، فجعل أعلاها أدناها؛ حبة نزل عليها مطر السماء، فاهتزت وربت وهي في وسط التراب، وأنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، فانحنت تواضعا، وهذا سر عجيب أن تنحي مثل هذه السنابل المثقلة، وأن تتعالى تلكم السنابل الفارغة، وتلك قصة أخرى.
مشهد رُسم في آية جميلة من آي القرآن الكريم -وكل آيات الذكر الحكيم جميلة- آية قال الله تعالى فيها: “مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ”، لم يقف فضل الله تعالى عند مضاعفتها إلى المائة ولكن فضل الله وكرمه بعباده لا يحده شيء ولا يدرك مداه إلا الكريم الجواد جل جلاله؛ “وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ”.
في حين اتخذ العالم يوما للاحتفال فيه بالتطوع، وهو اليوم الخامس من شهر دجنبر، يتخذه معظم الناشطين في مجال العمل الخيري التطوعي والإغاثي بالحث على الإنفاق ومساعدة الآخرين، ومد يد العون للمستضعفين، ومسح الدموع من وجوه الأيتام والأرامل والمعوزين، والترغيب في ذلك كله؛ وكذلك بابتكار طرق جديدة وفعالة في مجال التطوع، وتوسيع دائرة المستفيدين من تلكم العطايا.
إن المال في الإسلام له معنى آخر، وهو أنه ليس ملكا لأحد فهو ملك لله تعالى وحده لا شريك له، وإنما الإنسان مستخلف فيه، لينظر الله هل يشكر العبد أم يكفر، هل ينفق أم يبخل، قال الله الغني سبحانه: “آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ”، فـ”هَا أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ ۖ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ۚ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ”، فتأمل كيف أن الله دعا للإنفاق في سبيله وأنت تبخل، وتمسك مالك، وإن كان في الحقيقة ليس مالك وإنما هو مال الله جل في علاه فلو كان المال ملكا للإنسان فليأخذه معه إذن إلى قبره ولا يدع لورثته منه شيئا؛ ولكن للأسف هذا محال!
إن روح المؤمن روح معطاءة، متمردة على معاني الأنانية، روح متشبعة بمعاني العطاء والإيثار، روح مطمئنة على رزقها لأنها تعلم أن من خلقها هو من تكفل برزقها، قال الله تعالى: “وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا”.
بل قد تنتقل إلى درجة أرقى من العطاء، هي درجة الإيثار، وذلك حسب قوة إيمان المرء وضعفه، وبذلك تميز الأنصار رضوان الله عليهم، “وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ”؛ التطوع بكل بساطة تمرد على النفس، وثورة على المادة، التطوع طهر وصفاء، التطوع طيبة ونقاء، التطوع زينة الأولياء، وحلية الأتقياء، ألم يقل رب الأرباب: “خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا”.
أن تنفق في سبيل الله بمعنى أنك تبعث الحياة مجددا في قلوب الناس، أن تعطي مما أعطاك الله بمعنى أنك تتحدى نفسك وتتمرد على شهواتك ومغرياتك، أن تنفق في سبيل الله بمعنى أنك على هدى من الله.
والمتأمل في هامش التطوع عند الإنسان الحديث، يخرج بنتيجة مفادها هو تقلص هذا الهامش بشكل كبير جدا، بحيث أصبح يركز المتطوع الحديث على الجوانب الهامشية للمال، والتي لا تدخل في صميم ماله، فأصبحنا نشهد إعلانات تدعوا الناس وتحثهم على التطوع ولو بالملابس المهملة أو غير المرغوب فيها، والأحذية الضيقة أو القديمة التي لم تعد مستعملة، وفيما تبقى من طعام الأسرة كذلك، بخلاف إذا ما تأملنا شريعتنا الغراء فإنها غالبا ما تدعو إلى الإنفاق من صميم المال، ومن لبه.
لست في حاجة لأن أستشهد بما أبدع فيه المسلمون -وما زالوا- من أوقاف وهبات، وصدقات وتبرعات، وحسبي في مثل هذا المقام أن أذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوقف أرضا أصابها بخيبر في سبيل الله، وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه أوقف بئر رومة للنفع العام للمسلمين، وكان قد اشتراها بمبلغ كبير من عند يهودي، وكذلك فعل خلف أولئك السلف الصالحين، بحيث أبدعوا أوقافا شملت الأرامل والأيتام، والمرضى وطلبة العلم، وغير ذلك كثير، وكانت آية في كتاب الله، هي نبراسهم في ذلك، قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ”.
وقد رفع الله جل وعلا الحرج عن الفقراء والضعفاء غير القادرين على المساعدة المادية، رفع عنهم الحرج في أن يبدوا رأيهم وأن يسهموا باقتراحاتهم في سبيل إنجاح الأعمال التطوعية، رغم أنه لا مال لهم ولا متاع، قال سبحانه: “لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ”.
فمن ذا قدير على اللحاق بأولئك الصالحين.. ومن ذا مشمر كي يكون في ركبهم؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *