إخلاص الإخلاص (1/2)

من المعالم الواضحة في حياة السلف عموما، والتي ينبغي الاسترشاد بها والسير على طريقها: إخلاص الإخلاص.
ذكر الذهبي في «السيَر» عن أبي حاتم الرازي قال: «حدثنا عبدة بن سليمان المروزي قال: كنا سريّة مع ابن المبارك في بلاد الروم، فصادَفَنا العدو، فلما التقى الصفان، خرج رجل من العدو فدعا إلى البِراز، فخرج إليه رجل من المسلمين فقتله، ثم آخر فقتله، ثم آخر فقتله، ثم دعا إلى البِراز، فخرج إليه رجل من المسلمين فطارده ساعةً فطعنه المسلم فقتله، فازدحم إليه الناس، فنظرتُ فإذا هو عبد الله بن المبارك، وإذا هو يكتم وجهه بكمّه، فأخذتُ بطرف كمّه فمددته، فإذا هو هو؛ فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنّع علينا!»(1).
فتأمل في القصة السابقة إخلاص هذا الإمام رحمه الله، في هذا العمل الصالح المتمثل في إخفاء نفسه عن أنظار الناس، في موقف يُتشوّف فيه لإظهار النفس، وتأمل إخلاصه في هذا الإخلاص، حيث غضب على من كشفه وأظهره للناس.
وفي تأمل وتدبر هذه الواقعة فوائد وعبر، نذكر منها:
-1 إخلاص العمل لله سبحانه فيه مشقة وعسر إلا من يسره الله تعالى عليه، لأن الإخلاص عمل قلبي خفي لا يطّلع عليه البشر، وليس للإنسان فيه نصيب، ولأنه يحتاج إلى عناية مستمرة، فالنية تتقلب، وكذلك ارتباط الإخلاص بكل عمل يعمله المسلم صغيراً كان أم كبيراً.
قال يوسف بن الحسين: «أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي فكأنه ينبت على لون آخر»(2).
ويقول سفيان الثوري: «ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي لأنها تتقلب عليّ»(3).
ويقول يوسف بن أسباط: «تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد»(4).
-2 إخلاص الإخلاص قدر زائد على الإخلاص، فهو كالقيد لهذا العمل يحفظه من الضياع، وكالصندوق يحمي به المسلم عمله من أن تسرقه وسوسة شيطان أو ثناء إنسان.
فالمسلم إذا أخلص في عمل، يجب عليه أيضاً أن يحافظ على هذا الإخلاص بإخلاص آخر يصاحبه، ويستمر معه فيخلّصه من شوائب الرياء.
-3 من مظاهر عدم الإخلاص في الإخلاص: إظهار النحول والتعب ليدل به على صومه، بل والتحدث عن مشقة العبادات، فتجده مثلاً يقول: «لقد لقينا من حجنا أو صومنا هذا نصباً»؛ وربما ذم نفسه أمام الملأ ليزيّن نفسه بذلك.
يقول مطرف بن الشخّير: «كفى بالنفس إطراء أن تذمها على الملأ كأنك تريد بذمها زينتها، وذلك عند الله سفه»(5).
ومن المظاهر: العجب بإخلاص العمل، بل تعدى الأمر ببعض الأفراد إلى الإعلام بما يقومون به من أعمال دعوية وخيرية على وسائل التواصل الاجتماعي، ونشر صور أنشطتهم في حساباتهم الشخصية والمنتديات، وكأنهم ينبهون الناس على فضيلتهم ومزيتهم، بل ترى بعض هؤلاء عندما تدخل إلى بيته قد صف الدروع والشهادات، وربما علق القصائد التي تشيد بجهوده وإنجازاته، فمن كان هذا حاله فليصلح نيته وليُخْفِ أعماله عن الناس.
-4 كما تجتهد في أول العمل بمحاولتك الإخلاص فيه فاجتهد أيضاً بعد العمل إذا أخلصت فيه، بكف صوارف الإخلاص من رياء وحب مدح وغيره، فالبعض يظن أن الإخلاص يكون في أول العمل فقط.
جاء عن سليمان الهاشمي أنه قال: «ربما أحدث بحديث واحد ولي نية، فإذا أتيت على بعضه تغيّرت نيتي فإذا الحديث الواحد يحتاج إلى نيات»(6).
-5 جاء ما يؤيد هذا المعنى في البخاري ومسلم مرفوعا، في قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة حيث سألوا الله بصالح أعمالهم، والتي يجمع بينها الإخلاص، حيث أنهم لم يذكروا هذه الأعمال الخفية لأحد إلا في هذا الموضع الذي احتاجوا فيه لذكرها والتوسل بها إلى الله ليفرج عنهم كربتهم، ولذلك استجاب الله لدعائهم لعلمه بصدق إخلاصهم.
-6 إخلاص الإخلاص كما يكون في الفعل يكون في الترك أيضا، ففعل الطاعة وترك المعصية كلاهما يحتاج إلى إخلاص الإخلاص فيهما، فكما تجتهد في إخلاصك في الطاعة فاجتهد في إخلاصك في ترك المعصية، فكم من إنسان تحدّث عن صبره في مقاومة معصية من المعاصي، وكيف تركها مع توفر الدواعي لها، فهذا مما ينافي إخلاصه في ترك المعصية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-(1) سير أعلام النبلاء (8/394)، تاريخ بغداد (10/167).
-(2) مدارج السالكين (2/96).
-(3) جامع العلوم والحكم (12).
-(4) المصدر السابق (29).
-(5) شرح حديث «ما ذئبان جائعان» (46).
-(6) السير (10/625).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *