كلما تطاول على الأمم العمر ونأى بهم الزمان عن فترات الرسل، وأوقات نزول الكتب، إلا وحادوا عن عقيدة التوحيد وانحرفوا عن منهج الشرعة الربانية وانمحى بعض من الدين أو جله، حتى إذا بلغت البشرية من بدع الضلالة أقصاها وانحطت في دركات الشرك أدناها، واستحكمت فيها مظاهر الانحلال والتفسخ وتفشت فيها أمراض الفكر الشاذ والاعتقاد المنحرف، ابتعث الله تعالى فيهم رسلا لتصحيح الاعوجاج، وتقويم الانحراف، وتجديد العقيدة، وإحياء السنة، واجتثاث مظاهر الشرك والبدعة.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ جلَّ وعلا أمَرني أنْ أُعلِّمَكم ممَّا علَّمني يومي هذا وإنَّه قال لي: إنِّي خلَقْتُ عبادي حُنفاءَ كلَّهم وإنَّ كلَّ ما أنحَلْتُ عبادي فهو لهم حلالٌ، وإنَّ الشَّياطينَ أتَتْهم فاجتالَتْهم عن دِينِهم، وحرَّمَتْ عليهم الَّذي أحلَلْتُ لهم وأمَرَتْهم أنْ يُشرِكوا بي ما لم أُنزِّلْ به سُلطانًا، وإنَّ اللهَ أتى أهلَ الأرضِ قبْلَ أنْ يبعَثَني فمقَتهم عرَبَهم وعجَمَهم، إلَّا بقايا مِن أهلِ الكتابِ، وإنَّه قال لي: قد أنزَلْتُ كتابًا لا يغسِلُه الماءُ فاقرَأْه نائمًا ويقظانَ» صحيح ابن حبان:654.
ومبتدأ هذا المنهج الإصلاحي يروم في حقيقته الدعوة إلى توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبودية، لأنه الأساس الذي يقوم عليه الدين، والقاعدة التي تتأسس عليها أحكامه، فلم تخل رسالة من نداء إلى التوحيد، يقول الله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ» الأنبياء:25.
ولم يتخلف رسول أو نبي عن التمسك بهذه الدعوة والالتزام بتبليغها، يقول عز وجل: «قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» البقرة:136، بل كانت في صدارة مهمات الرسل لعِظم قدرها وعلو شأنها، فعلى مدارها يدور الدين كله، فاتفقت كلمتهم ابتداء منذ آدم إلى محمد عليهم جميعا أفضل الصلاة وأزكى السلام، على نبذ الشرك وتجريم المشركين وإقرار التوحيد وتبشير الموحدين.
فهذا نوح يدعو قومه: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَن لَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ۖ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ» هود:25-26، وهود: «وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ» هود:50، وصالح: «وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ هُو أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ» هود:61، وشعيب: «وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ» الأعراف:85.
والنبي صلى الله عليه وسلم مكث في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو قومه لتوحيد الله عز وجل، يقول الله تعالى: «قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» يوسف:108، واستمر في المدينة عشر سنين، يوطد ركائز دولة الإسلام التي تأسست على التوحيد الخالص والعقيدة الصحيحة.
وإذا كان التوحيد في حقيقته، إفراد لله تعالى بالألوهية والعبودية والأسماء والصفات ونبذ ما دونه من المخلوقات وهذا هو الأصل، فينجم عن هذه الحقيقة معاني أوسع في دلالاتها ومفاهيم أشمل في مقاصدها، فهو اتحاد قوى الإيمان وتآلف قلوب المسلمين على منهج واحد ورؤية واحدة وهدف واحد، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «مَثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم، مَثلُ الجسدِ إذا اشتكَى منه عضوٌ، تداعَى له سائرُ الجسدِ بالسَّهرِ والحُمَّى» مسلم: 2586.
والشرك نقيض ذلك، فهو يتضمن في معناه التفرقة والشتات والتعدد، وهذا يفضي إلى الضياع الروحي والضلال الاعتقادي والتيه عن الحق، فيفقد الإنسان بذلك بوصلة الهداية وينساق وراء أهواء الأنفس، وإغواء شياطين الجن والإنس، يقول الله تعالى: «قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا» الكهف:110.
كما أن التوحيد يحيلنا إلى أصل واحد ومنبع واحد ومشكاة واحدة، فأصل الخلق ومنبع الدين ومشكاة نور الوحي والهداية مصدرها واحد وهو الله عز وجل، وباستحضار هذه المعاني ندرك عظمة الله تعالى وحسن تدبيره ولطفه ورحمته بعباده، فيصرف عنا ذلك كل شواغل القلب وعوارض النفس ودواخل الفكر عن الإقبال والتشوق إليه والإيمان به، يقول تعالى: «وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُو الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ» البقرة: 163.
والتوحيد ميثاق أزلي وعهد متين بين ذرية آدم والخالق عز وجل، وهو إشهاد على ربوبيته وإقرار على اختصاصه بالعبودية، يقول الله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ» الأعراف: 172.
والتوحيد هو عقيدة الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، وهذه العقيدة هي التي تستجيب لنداء تلك الفطرة وتوافق متطلباتها وتسد حاجاتها وهي الحافظة لها من أ ي انحراف أو تشويه، ولذلك نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفطرةِ، فأبواه يُهَوِّدانِه، أو يُنَصِّرانِه، أو يُمَجِّسانِه، كمثلِ البَهِيمَةِ تُنْتِجُ البَهِيمَةَ، هل ترى فيها جَدْعَاءَ» البخاري:1385.
فلم يقل في الحديث يسلمانه لأن المولود مجبول بفطرته على توحيد الله تعالى، وهو مستعد لتقبل هذه العقيدة قبل تلقي أي ابتداع شركي مادام قد أقر مسبقا في عالم الذر بوحدانية الله عز جل، يقول الله تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًاۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَاۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» الروم:30.
اللهم ارزقنا الإخلاص في التوحيد والصدق في القول والعمل.
والحمد لله رب العالمين.