السبع المثاني.. الحصن الحصين من الانحرفات الفكرية جلال اعويطة

عن أبي سعيد رافع بن المعلى رضي الله عنه، قال: قال لي رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: “أَلاَ أُعَلِّمُكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ في القُرْآن قَبْلَ أنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ؟ فَأخَذَ بِيَدِي، فَلَمَّا أرَدْنَا أنْ نَخْرُجَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّكَ قُلْتَ: لأُعَلِّمَنَّكَ أعْظَمَ سُورَةٍ في القُرْآنِ؟ قَالَ: الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، هِيَ السَّبْعُ المَثَانِي وَالقُرْآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ؟ رواه البخاري.
وفي البخاري ومسلم قال عليه الصلاة والسلام: “لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب”، وفي الطبري بسند صحيح قال عليه الصلاة والسلام: “والَّذي نفسي بيدِه، ما أنزل اللهُ في التَّوراةِ ولا في الإنجيلِ ولا في الزَّبورِ ولا في الفُرقانِ مثلَها”، يعني: أمَّ القرآنِ -وإنَّها لهي السَّبعُ المثاني الَّتي آتاني اللهُ تعالَى، فلا إسلام بلا صلاة ولا صلاة بلا فاتحة.
إن هذه المكانة العظيمة التي بوأها الله تعالى سورة الفاتحة تحتاج منا إلى توقف وتأمل وتدبر لمعاني هذه السورة العظيمة، وسبب تكرارها دون غيرها من السور في اليوم سبعة عشر مرة على الأقل؛ هذا التكرار الذي يرسخ -بلا شك- القيم والمعاني العظيمة التي جاءت بها السورة، ويعظم في النفوس الأدعية الواردة فيها، والتي يقول عنها شيخ الإسلام: “أنفع الدعاء وأعظمه وأحكمه: دعاء الفاتحة”.
إن الحرب الفكرية القائمة اليوم في كل أرجاء العالم؛ والشبهات التي يلقيها أعداء الحق عبر قنواتهم المختلفة؛ تحتاج منا لدفعها إلى إعادة ربط الأمة بهذه السورة العظيمة تلاوة وتدبرا وعملا.
فتعريف النفس بفاطرها وبارئها وخالقها، بأسمائه وصفاته في الآيات الثلاثة الأولى من هذه السورة المباركة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، سيبني في النفس أصول الإيمان الراسخة؛ ذلك الإيمان الذي يستحيل أن تزعزعه أو تزحزحه رياح الشبهات وأمواج الفتن.
تأمل أيها القارئ الكريم قوله سبحانه: (الحمد لله رب العالمين) مربي جميع العالمين بخلقه إياهم، وإنعامه عليهم، وتدبير أمورهم، وأخص من هذا تربيته لأصفيائه بإصلاح قلوبهم وأرواحهم، وقد جاء وصفه بالربوبية بعد وصفه بالألوهية (الحمد لله رب العالمين)، وذلك إقرار باستحقاقه جل وعلا كل أنواع وأجناس الحمد… فإن ثبتت معاني هذه الآية في النفوس ماذا سيبقى بعد ذلك من أمراض الشرك والشك.
إن هذه الآيات الثلاث الأولى من سورة الفاتحة فيها رد على شبهات أشد طوائف هذه الأمة انحرافا؛ فيها رد على ثلاثة طوائف كل طائفة تتعلق بواحدة من هذه الآيات دون غيرها، كمن يعبد الله بالمحبة وحدها كالصوفية، أو من يعبد الله بالرجاء وحده كالمرجئة، وكذلك من يعبد الله بالخوف وحده كالخوارج، والمتبع الصادق هو من يجمع بينها: المحبة والرجاء والخوف.
فالثناء على الله وتوقير الله وتعظيم الله من أعظم الأمور المعينة على ثبات القلب، فربط القلوب بخالقها هي غاية الوجود وسر الحياة،
إن رسخنا في النفوس أننا بمجرد تحريك ألسنتنا بهذه السورة أن رب السموات والأرض الخالق المدبر يتحدث عنا كما في الحديث القدسي في صحيح مسلم: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي، وقال مرة: فوض إلي عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: إهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.
لا شك أن استشعار المرء لهذه القسمة الربانية الهادئة سيرمم في القلب تلك التصدعات التي يسعى الأعداء لإحداثها، فإن وُفق العبد لتدبر هذه الآيات وسعى لإدراك حقيقتها فلن يزيغ بإذن الله عن ذلك الصراط المستقيم.
إن عمارة قلوب أفراد الأمة بهذه الكنوز الربانية والمعاني الرفيعة لن يترك المجال في هذه القلوب لحطام الأطروحات الفكرية المضللة، فالقلوب العامرة بهذه العقيدة والمعاني السامية لن تتمكن منها شبهات المرجفين والمشككين؛ التي بات أعداء الأمة يوظفونهم بدل المواجهة العسكرية التي تكلفهم خسائر بشرية ومادية باهظة.
سورة الفاتحة تلخص لنا قصة الإسلام عقيدة وشريعة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) إياك نعبد تفيد الحصر فلا معبود إلا الله، فبمجرد استقرار معنى هاتين الكلمتين في القلب تتهاوى أمامنا كل المألوهات من دون الله، (إياك نعبد) هو البرنامج لمن يريد بناء الحضارة وعلى هاتين الكلمتين نؤسس لمشروعنا النهضوي.
إذا امتلأت القلوب بمعنى (إياك نعبد) فسيتضح الطريق السياسي المنشود؛ فلا يملك حق التشريع إلا الله، هنا العدل والإنصاف.. هنا حقوق الإنسان وحقوق الأقليات.. هنا كرامة المرأة هنا العدالة الاجتماعية.. هنا الأمن والأمان، فمهما أفرزت لنا الصناديق ومهما أصدرت لنا البرلمانات من قوانين فلن تصل إلى ذلك العدل الرباني المنزل من السماء… فتحقيق العبادة الكاملة والمطلقة لله سبحانه أساس النهضة وسر البناء وجوهر الإصلاح، إذا أدرك الساعي وراء تحقيق العدل والأمن معني (إياك نعبد) فلن يرضى إلا بالتشريع الرباني.
(إياك نستعين) فلا عبادة إلا بالاستعانة بالله؛ قال العز ابن عبد السلام رحمه الله: (والله لن يصلوا إلى شيء يبتغونه بغير الله فكيف يُوصل إلى الله بغير الله؟) فلا بد أن نربي أنفسنا على هذه العقيدة الراسخة.. مفتاح كل شيء الاستعانة به سبحانه.
(إياك نستعين) أن تتبرّأ من حولك وقوّتك، وتسأله الإعانة في الأمور كلّها، فإحساسك بالحاجة إلى معونة ربك، معناه: أنك لا تملك لنفسك حولا ولا قوة، وهذا الشعور من شأنه أن يبعد الإنسان عن الشعور بالعجب الناشئ عن الإحساس بالقدرة التامة في تربية الذات وتنميتها؛ هذا الانحراف الذي انتشر -مع كامل الأسف- بين كثير من شبابنا اليوم.
يقول ابن القيم رحمه الله وكثيراً ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: (إياك نعبد) تدفع الرياء (وإياك نستعين) تدفع الكبرياء.
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) إنها تعالج أشد الأمراض فتكا بالبشرية؛ الشرك الخفي والكبر، أمراض لن تنفع معها المستشفيات المتطورة والمختبرات العالمية، أمراض روحية خفية إن لم يتداركهما العبد رميا به إلى التلف والضياع… (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) تأملها في كل صلواتك حتى لا يلتفت قلبك إلى غير الله سبحانه.
فهل من تدبر هذه الآية وتذوق معانيها سنجده يوما يتمسح بالأضرحة ويسأل أصحابها الحاجات؟ أو ينتظر الثناء والمدح من الناس؟
لا أبدا..
ثم تأتي المنحة العظمى والنعمة الأسمى والشرف الأعلى سؤال الله الهداية (اهدنا الصراط المستقيم).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أنفع الدعاء وأعظمه وأحكمه: دعاء الفاتحة..
بالله عليكم إذا خرج هذا الدعاء من قلب صادق مُوقن بالإجابة هل سنجد صاحبه مخذولا يُمجد الأطروحات الغربية المنحرفة؟ أو يدافع عن سياسة ما أنزل الله بها من سلطان؟ أو هل سنجده حائرا لا يعرف نور الإيمان إلى قلبه سبيلا؟
فلا عاصم من هذه الأفكار المنحرفة التي تعصف بالعقول إلا الهادي سبحانه، ولهذا كان سؤال الله الهداية من أعظم الأدعية التي جعلها الله سبحانه في آخر رسالاته للبشرية (والَّذي نفسي بيدِه، ما أنزل اللهُ في التَّوراةِ ولا في الإنجيلِ ولا في الزَّبورِ ولا في الفُرقانِ مثلَها، يعني: أمَّ القرآنِ وإنَّها لهي السَّبعُ المثاني الَّتي آتاني اللهُ تعالَى).
إن جعل طلب الهداية أعظم دعاء عرفته الإنسانية على الإطلاق دليل واضح على امتلاء الطريق نحو الصراط المستقيم بمخاطر الشبهات وعقبات الانحرافات وألغام الأغلاط.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: (وإنما فرض عليه من الدعاء الراتب الذي يتكرر بتكرر الصلوات، بل الركعات فرضها ونفلها، هو الدعاء الذي تتضمنه أم القرآن وهو قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم) لأن كل عبد فهو مضطر دائماً إلى مقصود هذا الدعاء وهو هداية الصراط المستقيم. الفتاوى.
(صراط الذين أنعمت عليهم) هنا سنربط القلوب بسير أسلافها ممن سبقنا من الصالحين والعظماء والناجحين لا مجال للنُخب المزورة أو المفكرين المستلبين الذين أدخلوا البشرية بأطروحاتهم السقيمة إلى ظلمات الإلحاد ومزالق الزندقة، تأملها (أنعمت عليهم) من المنعم؟ وعلى من أنعم سبحانه؟ وكيف الطريق إلى هذا الإنعام؟
(غير المغضوب عليهم) وهم أهل فساد القصد، الذين عرفوا الحق وعدلوا عنه، (والضالين) وهم أهل فساد العلم، الذين جهلوا الحق ولم يعرفوه وكان أهل الصراط المستقيم أهل العلم النافع مع العمل الصحيح.
فلو نجحنا في دفع شبابنا والأمة جمعاء إلى الإقبال على تدبر هذه السورة خاصة؛ وفهم معانيها والوقوف مع أحكامها؛ لتهاوت أمامهم كل الشبهات ولاستطعنا تحصين المجتمع عقديا وسلوكيا ضد الأفكار الدخيلة والأطروحات المنحرفة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *