لماذا نجحت التجربة الفنلاندية في التعليم؟ ذ.الحسن العسال

ها قد انتهت السنة الدراسية، وعاد تعليمنا كما كل سنة خاوي الوفاض، ولم يحصل المغرب من خلاله حتى على خفي حنين، لا لشيء إلا لأن المسؤولين لازالوا حبيسي الزنزانة الفرانكفونية بمحض إرادتهم، أو قل عشقهم لها، دون أن يلتفتوا إلى باقي التجارب، لهذا ارتأيت أن أسلط الضوء -مرة أخرى- على التجربة الفنلاندية الفريدة، التي أصبحت قبلة التربويين من أنحاء العالم خلا المغرب! 

فقد زار ثمانية عشر مسؤولا تربويا من أربع عشرة دولة بعض المؤسسات المدرسية الفنلاندية من جميع المستويات، لفهم أسباب النجاح الباهر للتلاميذ الفنلانديين، والوقوف في عين المكان على أسراره، ولم يكن منهم بالطبع مغربنا الحبيب، لأنه ملتزم إلى النخاع بالتجارب الفرانكفونية الفاشلة.
لقد انهمكت فنلاندا بعمق في إصلاح نظامها التربوي منذ ثلاثين سنة مضت، لتحصل على الرتبة الأولى فيما يخص القراءة من بين ثلاث وأربعين دولة، والرتبة الرابعة في الرياضيات، والثالثة في العلوم.
فكان من بين أسباب هذا النجاح: الغياب شبه التام لتأثير الفوارق الاجتماعية والفوارق بين المؤسسات على نتائج التلاميذ، والاهتمام بالتلميذ -فعلا- وجعله محور النظام التربوي حقا، وذلك بالبحث الدقيق والعميق عن حاجاته الواقعية، ليكون سعيدا منفتحا، حرا في أن يتطور حسب إيقاعه هو. وذلك بالمشاركة الفعلية للدولة والبلديات ورؤساء المؤسسات والأساتذة…
وقد لخص مدير ثانوية هذا التصور بقوله: “كل تلميذ مهم”، مما يُشْعِر التلميذَ حينما يكون في المدرسة، أنه في بيته حقيقة، بدليل تخصيص 65 متر مربع لكل قسم، مع طلائه بألوان ساخنة، وتزيين جذرانه بأعمال التلاميذ الذين لا يدور بخلدهم أن يلطخوا أو يبعثروا أويفسدوا بيتهم الثاني الذي هو المدرسة، والتي يحترمونها ويحافظون عليها وعلى نظافتها، إلى درجة أن السرقة غير معروفة عندهم، على الرغم من وضع التلاميذ لملابسهم في مستودعات متاحة للجميع.
إن المدارس الإعدادية في فنلاندا لا يتعدى تعداد تلاميذها الأربعمائة، فيما لا يتجاوز تعداد المدارس الثانوية الخمسمائة، رغبة في خلق جو من القرب يخول للمدير معرفة كل تلميذ شخصيا، كما يطبع العلاقة بين التلاميذ والأساتذة الاحترام المتبادل.
والأطفال في فنلاندا لايبدأون تعلم القراءة بشكل عاد إلا في سن السابعة، تسبقها مرحلة رياض الأطفال بين السنة الأولى والسادسة، ومرحلة التربية قبل المدرسية بين السادسة والسابعة، وإذا أظهر الطفل مؤهلات خاصة، يُمْنَحُ الفرصة لتعلم القراءة في سن مبكرة.
وعلى العكس من ذلك، وباتفاق مع الآباء والأساتذة، يمكن الاحتفاظ بالطفل في الروض إلى حدود سن الثامنة إذا بدا أنه غير مهيأ لتلعم القراءة. كما أن لكل طفل الحق في مقعد في الروض، داخل محيطه السكني، وإلا فإن مدير الروض هو المسؤول عن البحث للأبوين عن مقعد خارجي على أن تكون المسافة بين البيت والروض في حدود المعقول.
وهناك دائما مجموعات منظمة بشكل منهجي، رهن إشارة الأطفال الذين يجدون مشاكل في مادة من المواد، كما أن هناك مساعدا في القسم لدعمهم.
إضافة إلى توفر أساتذة متخصصين في كل المؤسسات الإعدادية لتقديم العون للأطفال الذين يجدون صعوبات في أي مرحلة من مراحل المقرر الدراسي، على ألا يتعدى عدد التلاميذ موضوع التحمل خمسة، فيما لا يتعدى مجموع تلاميذ كل قسم خمسة وعشرين، إضافة إلى توفر مستشار لكل مؤسسة إعدادية ،بصفة دائمة، على ألا يتجاوز عدد تلاميذها المائتين.
إن جدران القسم في فنلاندا تكون محاطة بالكتب، ولا يوجد فصل دراسي لا يتوفر على حاسوب، وجهاز عرض الصورة الشفافة، وجهاز فيديو كشاف، وتلفاز مع مشغل “دي في دي”.
يقول مدير مؤسسة إعدادية: “لا يمكننا إجبار التلاميذ على التعلم، بل ينبغي منحهم مختلف الإمكانيات لذلك، حتى يكتسبوا الكفايات”.
ولذلك -كما تقول إحدى أستاذات الإنجليزية-:”الأستاذ ليس موجودا في القسم للقيام بكل شيء، وإنما هو موجود لينظم، ويساعد التلاميذ على التعلم”.
ومن الميزات الأكثر شيوعا في النظام التربوي الفنلاندي هي الحرية الكبيرة التي تُتْرَكُ للتلاميذ في اختيار تنظيم مناهجهم الدراسية.
أما بالنسبة للتقويم، فالتلاميذ لاتمنح لهم نقط على الإطلاق، إلى حدود التاسعة من العمر، وانطلاقا من هذه السن يُقَوَّمُون بطريقة غير عددية، وبعد ذلك، أي إلى حدود الحادية عشرة، لايتم تقويمهم. مما يعني أنهم لا يخضعون لأي تقويم خلال مرحلتهم الابتدائية إلا مرة واحدة، قصد تمكينهم من اكتساب المعارف الأساسية بعيدا عن أي توتر ناتج عن نقط المراقبة، وبدون أي وصمة عار في جبين التلاميذ الأبطأ تعلما، وحتى يتسنى لكل تلميذ أن يتقدم حسب إيقاعه الخاص دون ترهيب.
أما النقط العددية فلا تظهر إلا في المستوى السادس، عندما يبلغ التلاميذ ثلاث عشرة سنة، وتتراوح بين 4 و10، أما الصفر الشائن الفاضح، والنقط الضعيفة جدا فتم حظرهما بالكلية. لأن التلميذ -في نظرالتربويين الفنلاديين- إما أن يعرف أو لا يعرف، فإذا كان لا يعرف يحصل على 4، مما يستوجب ضمنا إعادة التعلم غير المتحقق.
ومن هنا يظهر أن التقويم في فنلاندا مسكون بهاجس عدم معاقبة أي تلميذ، بل بالعكس يجب منحه الفرصة دائما للتعلم، بحيث يتم تقويم مايَعْلَم، عوض تقويم مالا يَعْلَم، مما ينتج عنه إحساس التلاميذ بأنهم صالحين لشيء ما.
أما مهنة المدرس فلازالت تتمتع بسحر حقيقي وجاذبية واحترام بين أفراد المجتمع، لأن المدرسين خبراء في مجال مهنتهم، ولأنهم مخلصون في إنجاز المهمة الملقاة على عواتقهم. يقول أحد الشباب الطموحين عن سبب اختياره لمهنة التدريس، أنه يكمن في حبه للأطفال.
وفي فنلاندا، لا يتم اختيار المرشحين لهذه المهنة على أساس الكفايات المعرفية والنظرية فحسب، بل أيضا انطلاقا من نظرتهم الإيجابية لهذه المهنة وللطفل قبل كل شيء، ولتفهمهم له ولحاجاته، وإحساسهم بأنهم في خدمته أكثر مما هم في خدمة المادة التي يدرسون.
وفي المقابل، وكما سلف الذكر فإن الأساتذة الفنلانديين يتمتعون بظروف عمل مادية جد إيجابية، بالنظر إلى عدد التلاميذ الذي لا يتجاوز خمسة وعشرين تلميذا إلا نادرا، إضافة إلى توفرهم على أقسام فسيحة ومجهزة بأحدث التجهيزات.
مما يجعل منهم أساتذة سعداء، وفخورين بنظامهم التربوي، الذي يعتبرونه منظما غاية التنظيم.
يقول أحد الأساتذة:”أحب عملي لأنني يمكنني القيام بالأشياء كما يحلو لي، وحسب طريقتي”.
وهذا لايعني بأي حال من الأحوال أن هناك فوضى، بل على العكس تماما، لأن الحرية البيداغوجية الكاملة، وكذا الهامش الكبير من الاستقلالية التي يتمتع بها الأساتذة هنالك بمجرد اجتياز الكفاية المهنية، والحصول على التعيين، ليس نابعا من فراغ، وإنما هو نابع، كما تقول إحدى المديرات من: “الثقة الكاملة في أساتذتنا،لأنهم مؤهلون جدا”.
وللحفاظ على هذا المستوى العالي من الكفاية والخبرة، يشارك الأساتذة دائما في عمليات التكوين المستمر، وذلك من خلال حوار ومفاوضات فيما بينهم وبين رؤساء المؤسسات. مما يجعلهم يحتفظون بالتقدير الكبير لهم من طرف مؤسساتهم ومجتمعهم.
قبل ثلاثين سنة مضت لم تكن الأمور على ما يرام، لأن التلاميذ كانوا غير منضبطين، وأقل تحفيزا، إلا أن التغيير وقع بالتدريج وعبر مراحل، وفي استقلال تام عن تغيرات الأغلبية السياسية.
وباعتماد اللامركزية، فُوِّتَتْ سلطات واسعة للبلديات فيما يخص التربية، مع احتفاظ الدولة دائما بمسؤوليتها في تحديد البرامج والمقررات.
أما بالنسبة لعمليات تقويم وظيفة المؤسسة المدرسية فهو إجباري، يجب على المؤسسة تنظيمه بنفسها، إضافة إلى تقويم إلزامي آخر، إلا أنه خارجي تقوم به البلديات في الغالب.
وتخضع المؤسسات الثانوية لنفس التقويم الإجباري، وكل مؤسسة عليها وضع خطة للتقويم تُقَدَّم للسلطة المحلية. والمجالات المراد تقويمها واسعة جدا،لا تقتصر على نتائج الامتحانات بل تتعداها إلى تقويم كل الجوانب البيداغوجية والعلائقية والمادية للحياة في الثانوية، ويتم استعراضها في بيانات قابلة للولوج إليها عبر شبكة المؤسسة حيث يستطيع كل تلميذ التواصل محليا أو من منزله عبر الشبكة العنكبوتية للإجابة عن الأسئلة بكل حرية.
إن فينلاندا قد حسمت في اختيارها في أن تركز نفقاتها فيما يخص التربية على ما هو في خدمة التلاميذ حقيقة، مثل نسب التأطير العالية، والظروف المادية الأمثل، مع توفير النفقات في مناصب يبدو ألا مفر منها بالنسبة لبلدان كفرنسا مثلا كالحياة المدرسية والتفتيش والإدارة المركزية.
وقد أثبتت فنلاندا درجة عالية من اللامركزية، لم تكن لتتعارض مع انخفاض حاد للغاية في التفاوت بين المناطق. بل إنمنح الحكم الذاتي للبلديات والمدارس الثانوية، كان مفيدا جدا في تحسين النظام العام، وبعبارة أخرى: إن الفنلانديين مهووسون بتحقيق المساواة بين المناطق[1].
فأين تعليمنا من هذااستفادة وتدبرا لا إسقاطا[2]؟.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] اعتمدت في هذا المقال على تقرير لبول روبير بعنوان: التربية في فنلاندا:أسرار نجاح مذهل.
[2] ولولا ضيق المقام لاستفضت في سرد إيجابيات وخصائص ومزايا التجربة الفنلاندية الفذة.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *