الدعوة والثقافة

لا تزال الحياة الإنسانية مليئة بالعجائب، وثرَّة بالغرائب، وفي السياق العلمي والدعوي يتباين الناس في مشاركاتهم وعقولهم وآرائهم، مما يكشف عمق الهوة، وشدة الخلاف، التي سببها اختلاف أطوارهم وقدراتهم وعلومهم.
ولا غضاضة في ذلك، لأنها سنة الحياة، وحكمة الباري في خليقته! لكن الداعي للعجب، والباعث على الاندهاش: بروز أوابد(1) نائية، وظهور اجتهادات وآراء بعيدة، تجافي السياق العام، وتقفو الشواذ، وتتلقف المهجور، ولا تنسجم مع بدهيات العقول، وجواد العدول.
إن تحصيل الثقافة الإسلامية اللازمة طريق لفهم الدعوة واستيعاب معالمها، لكن ليس كل الدعوة! ولا يعني فهمها الفهم التام، وإدراك أسرارها وقضاياها وتطوراتها.
لقد بات بديهيا أن لكل علم مناهجه وطرائقه ومؤلفاته فالتفسير علم غير الحديث، والفقه شيء غير الاعتقاد، وكذلك الدعوة إلى الله بالمفهوم الإصلاحي والتربوي، لابد له من دراسة وعمق ودراية وفهم.
وصار الآن هناك دراسات خاصة في الدعوة وأصولها وأساليبها، تقدم أطروحات علمية بغية مناقشة قضايا شائكة عالقة بها، وعرف في بعض البلدان كليات خاصة تسمى بالدعوة.
وهنا لا بد من توضيح أمرين:
الأول: أن الدعوة باتت علماً مستقلاً تلتمس دراسة خاصة، تتجاوز مفاهيم الثقافة الإسلامية المشهورة.
الثاني: اعتقاد أن العلم الشرعي بمفهومه العام كاف في تحصيل الأساس الدعوي وسبر غور مشكلات الدعوة، وقضاياها وبرامجها!
والذي يُراد تأكيده هنا أن فئاماً من الدعاة والمثقفين يحاولون تسطيح المفهوم الدقيق للقضية الدعوية، ويزيدون من تضييق حجمها، وتصغير مساحتها، مع أنها كيان كبير، ومشروع ضخم، ازداد ضخامة واتسع مكانة بانحطاط الأمة، واستشراء الفساد، الذي دعا القادة الغُيُر، والدعاة الفضلاء إلى ضرورة العمل والمواجهة والتصدي.
فإذا أدرك الجميع أن الدعوة فن مستقل وعلم متكامل، توجهت المدارس والمناهج إلى تعميق تدريسه وأدائه، وأنه لا يمكن في مقرر يسير يصف أخلاقيات الدعاة، أو يتحدث عن تاريخ الدعوة وأساليبها من خلال العصور القديمة، وينتهي المشهد! كلا!
إن الدعوة في تطور عجيب من خلال اختلاف المراحل التي تعيشها، والنهضة التقنية التي تواكبها، ومن خلال بدو الصراعات، وتجدد مسائل مهمة ونوازل تحتاج إلى مجالس وحوارات لحلها، وكشف أسباب النزاع فيها.
فالدعوة إلى الله علم واسع لابد أن يتعلمه الشيخ والداعية والمثقف والتلميذ، ليفقه أصوله، ويدرك أساليبه، ويُلمَّ بقضاياه وأطرافه وكل مستجد فيه.
ومن خلال تكثيف الدراسات القرآنية والحديثية والتاريخية، سنستخرج علوماً هائلة ومعارف ضخمة تؤصل للدعوة، وتزيد في فهمها وتطويرها مع عدم الغفلة عن مستجدات العصر، وكيفية الاستفادة منها في نشر الإسلام. وطريقة التعامل مع المخالف، وما يسمى بحوار الأديان ومناظرات أرباب الزيغ والنفاق وقضايا تجديد الخطاب وتطويره والشخصية الدعوية المتكاملة، والمناشط التربوية الحديثة والمؤسسات الدعوية المستقلة وكيفية دعمها وتحسينها.
كل ذلك بات من قضايا الساعة ومهمٌ إدراكه وبلوغ غاياته، ولن يتم ذلك بين عشية وضحاها، بل لابد من تدريسه التدريس الشامل، وتعلمه من كل من يُعنى بخدمة الإسلام، والحرص على مستقبله وظهوره.
وفي خضم مآسي الأمة، وتسلط الغزاة عليها، تعظم المسئولية وتشتد الأمانة، لتؤكد لأهل العلم والفضلاء ضرورةُ التيقظ والحرص، والمسارعة إلى ترسيخ هذا العلم وتقعيده علمياً وفكرياً، حتى يصبح علماً له كينونته المستقلة، التي لا تقبل الممازحة مع شيء آخر.
إن جعل الدعوة إلى الله علما مضافا في ذيل علوم أخرى، نتج عنه مساوئ منها:
1- التهوين من قدر الدعوة، وأنها لا تتطلب جهداً كبيراً للبراعة فيها.
2- انخراط أجيال من كل من هب ودب فيها، دون التأهل والتحصيل.
3- تسطيح كثير من قضايا الدعوة، واعتقاد فهمها وجودة التنظير فيها.
4- عدم الإعداد والتخطيط، وسرد برامجها، حيث لا تحتاج مثل ذلك لسهولتها وليونتها.
5- هوان العمل المقدم والمطروح، وبروز مشكلات كبرى تفتقر إلى حلول ومعالجة.
6- سعة حجم الأخطاء المتعاقبة في العملية الدعوية.
7- عدم وضوح الرؤية في كثير من المشاريع والاجتهادات المقدمة بسبب ضعف الثقافة الدعوية.
إن الدعوة أعظم بكثير من مجرد تحسين الداعية خلقه، أو إلقائه محاضرة في الأخطاء الدعوية، أو تأليفه في تجارب الدعاة وممارساتهم.
وإن كانت هذه الأمور طيبة ومشكورة لكننا لابد أن نتحول بالدعوة من مسارها المسطح الضيق إلى مسارها العميق الشامل، الذي يؤصل لها، ويجعله متواصلاً مع القضايا الحديثة، والمستجدات العصرية، وأن يجسد ذلك في واقعنا، وتخصص له دورات خاصة معمقة في تبيان الوعي الدعوي، وكشف فقه الرسالة الدعوية، وكيفية التغلب على المشاكل والعوائق المطروحة.
ولا ينسى هنا الإسهام في ضخ التأليف الدعوي ودعمه، والحرص على تعميق الدراسات الدعوية، وتسليطها على الواقع المتقلب، ومناقشة القضايا المعاصرة بأسلوب علمي موضوعي، بعيداً عن العواطف والمشاعر غير المضبوطة بقواعد العلم الشرعي، التي ربما تضعف من القيمة العلمية، والنتائج الفكرية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – الآبدة الغريبة من الكلام، والجميع أوابد (العين للفراهيدي).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *