من المعلوم في الشريعة أن الأمن والأمان لا يتحققان, ولن يتحققا إلا بتحقيق الإيمان والعمل الصالح كما قال تعالى: “الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ”.
قال السعدي في تفسيره للآية: “قال الله تعالى فاصلا بين الفريقين “الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا” أي: يخلطوا “إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ” الأمن من المخاوفِ والعذاب والشقاء، والهدايةُ إلى الصراط المستقيم، فإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقا، لا بشرك، ولا بمعاص، حصل لهم الأمن التام، والهداية التامة. وإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بالشرك وحده، ولكنهم يعملون السيئات، حصل لهم أصل الهداية، وأصل الأمن، وإن لم يحصل لهم كمالها، ومفهوم الآية الكريمة، أن الذين لم يحصل لهم الأمران، لم يحصل لهم هداية، ولا أمن، بل حظهم الضلال والشقاء”. تيسير الكريم الرحمن.
وفي ذلك قال الشاعر:
الإيمان ضاع فلا أمان *** ولا دنيا لمن لم يحي دينا
ومن رضي الحياة بغير دين *** فقد جعل الفناء لها قرينا
وإذا كان الأمر كذلك, فكذلك لا سبيل لتحقيق الإيمان والعمل الصالح وعبادة الله جل وعلا، إلا في ظل الأمن والأمان والطمأنينة والاستقرار.
وعليه كان الحفاظ على أمن المجتمعات من أجلِّ مقاصد الشريعة, ومن أعظم مصالحها, بل هو رأسها وأساسها, لأن فقده عنوان الرزايا, ومفتاح البلايا, حيث يعم الاضطراب, وتشيع الفوضى, ويفتح باب الخوف والرعب, وتتمزق المجتمعات, وتضيع الطاعات, وتغيب شعائر رب الأرض والسماوات.
يقول الله تعالى: “فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ”.
ومِن أظهر الآيات في هذا المعنى قوله تعالى: “وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ”.
فجعل الله عز وجل تحقق الأمن والأمان سبيلا لإقامة عبادة الله وطاعته.
يقول السعدي رحمه الله عند تفسيره للآية: “فوعدهم الله هذه الأمور وقت نزول الآية، وهي لم تشاهد الاستخلاف في الأرض والتمكين فيها، والتمكين من إقامة الدين الإسلامي، والأمن التام، بحيث يعبدون الله ولا يشركون به شيئا، ولا يخافون أحدا إلا الله” تيسير الكريم الرحمن 3/375.
ومن ثم فيجب الحذر من زعزعة أمن المجتمعات, ومن ترويع المؤمنين والمؤمنات, واتخاذ طرائق للتغيير تخالف ما جاء في السنة والكتاب المستنير, سبلا طائشة, ومسالك عابثة, قائمة -حقا وصدقا- على المغالبة والتهور والاستعجال لا على الصبر والتأني والاعتدال, كل ذلك بدعوى الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر, أو ضيق الحال أو انتشار المنكرات, وشيوع المخالفات…!!!
فنقول لمن قام وقعد, وأزبد وأرعد… ما هكذا الغيرة على المحرمات؟! وليس هذا طريق إصلاح المجتمعات؟!وهل هذا سبيل الخروج من الأزمات؟! ومتى كان العنف يقيم أمر الديانات؟!
قال عليه الصلاة والسلام: “يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق, ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف, وما لا يعطي على سواه” رواه مسلم.
وها هو النبي صلى الله عليه وسلم قد مر على آل ياسر وهم يذوقون أشد العذاب على يد قريش ولم يقم بأي عمل ينتقم به مع إمكانه, ولكنه لم يرُدَّ على الأذى الذي تلقاه آل ياسر إلا بهذه الكلمات النيرات: “صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة”.
وليس في هذا خنوع أو ضعف, وإنما هي الحكمة والهداية والتعقل والرزانة, فقد قال عليه الصلاة والسلام: “إنكم لن تبلغوا هذا الأمر بالمغالبة” رواه أحمد وغيره, وانظر الصحيحة 4/1709.
إذن فعلى المسلم أن يصبر ويحتسب ويدعو الله بالثبات إذا زادت غربة الإسلام, وأن يبتعد عن طرق التهييج والانتقام, مع الدعوة والنصح والبيان, والتوبة وطلب المغفرة من الرحمن.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله المفترى عليه: “وكثير من الناس إذا رأى المنكر أو تغير كثير من أحوال الإسلام جزع وكَلَّ وناح كما ينوح أهل المصائب, وهو منهي عن هذا, بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام, وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون وأن العاقبة للتقوى وأن ما يصيبه فهو بذنوبه فليصبر, وإن وعد الله حق, وليستغفر لذنبه, وليسبح بحمد ربه بالعشي والإبكار” الفتاوي 18/291.
فلنتواصى -يا رعاكم الله- بالصبر على البلاء, والثبات إذا وقع القضاء, ولنكن بشير خير, ولا نكونَنَّ نذير شر, ولنقل للمتشائمين بعد طول انتظار كما قال النبي العدنان عليه الصلاة والسلام لأصحابه الكرام حينما اشتكوا من كثرة البلاء وشدته: “والله ليتمن الله هذا الأمر… ولكنكم تستعجلون” صحيح سنن أبي داوود.
إنها صيحة نبوية توقظ العقول الغافلة, وتنبه القلوب الخاوية, امتدت منذ نحو خمسة عشر قرنا مضت إلى هذه اللحظة وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, درسا تربويا, ومنهجا علميا, وطريقا نبويا, قائما على البرهان والدليل, يهدي من اتبعه سواء السبيل.
يقول العلامة السعدي رحمه الله: “.. العبد عبد مملوك تحت أوامر ربه ليس له من الأمر شيء (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً), فإذا تعجل الأمور التي يترتب عليها حكم شرعي قبل وجود أسبابها الصحيحة لم يُفده شيئا وعوقب بنقيض قصده,.. ويقابل هذا الأصل أصل آخر, أن من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه ولم يجد فقده” القواعد والأصول الجامعة 49-50.
ورحمة الله على أهل العلم لما قالوا:”من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه”.
مع التنبيه أنه ليس في هذا الذي قُرر -لا من قريب ولا بعيد- تغييب فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذلك لأن هذه الشعيرة العظيمة إذا لم تكن منضبطة بالضوابط الشرعية المنصوص عليها في الكتاب والسنة النبوية وما جاء عن السلف الصالح, فإنها وبال على الأمة, وباب فتنة على القائم به, وعلى المسلمين.
وها هم الخوارج والمعتزلة في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر لما انطلقوا من منطلقات بدعية بعيدة عن النصوص الشرعية, والآثار الصحابية, ومراعاة المصالح المرعية, ودرء المفاسد الردية, نجم عن ذلك الفساد العريض, والتصدع الكبير في جسم الأمة, فسالت الدماء وهتكت الأعراض ونهبت الأموال وقتل النساء والأطفال.
كل ذلك تحت اسم: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!.
يقول ابن خلدون رحمه الله: “ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء، فإن كثيرا من المنتحلين للعبادة وسلوك طرقِ الدينِ يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء, داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه, والأمر بالمعروف رجاء في الثواب عليه من الله، فيكثر أتباعهم والمتشبثون بهم من الغوغاء والدهماء, ويُعَرِّضون أنفسهم في ذلك للمهالك وأكثرهم يهلكون في تلك السبيل مأزورين غير مأجورين, لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم” المقدمة 157-158.
ويقول شيخ الإسلام رحمه الله: “وفي الآية “عليكم أنفسكم” معنى آخر وهو: إقبال المرء على مصلحة نفسه علما وعملا, وإعراضه عما لا يعنيه كما قال صاحب الشريعة: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)…
وكذلك العمل فصاحبه إما معتد ظالم وإما سفيه عابث.
وما أكثر ما يصور الشيطان ذلك بصورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله, ويكون من باب الظلم والعدوان” الفتاوي 14/482.
فالحذر الحذر من بنيات الطريق, التي تشكك وتُخَذل عن السبيل القويم الذي هو على منهج السلف الصالح قائم, والذي اعتدل في سيره وتوسط في مشيه, فقد انحرف كثير ممن انحرف استئناسا بالتعدد, وتوحشا من التفرد, واستعجالا للوصول, وضعفا وانهزاما عن تحمل الطول, ورحمة الله على الفضيل ابن عياض حيث قال: “عليك بطريق الحق ولا تستوحش لقلة السالكين وإياك وطرق الباطل ولا تغتر بكثرة الهالكين”, وصدق ابن القيم رحمه الله حيث قال: “من استطال الطريق ضعف مشيه” الفوائد 90.