وا أسفاه.. على تجاوز العلم وأصوله!! “إذا حكم العلم انقطع النزاع ووجب الاتباع” رشيد مومن الإدريسي

أعجبتني كلمة رصينة ومتينة صَدَّر بها أحد الأعلام كتابا له حيث قال حفظه الله: “إن الفتن في هذا الزمان تتابعت، وتنوعت، وتكاثرت، فمنها الفاتن للجوارح، ومنها الفاتن للقلوب، ومنها الفتان للعقول والفهوم.

وقد خاض أناس في الفتن غير مبالين! وخاض أناس غير عالمين!! وخاض فئام عالمين!!! وخاضت جماعات مقلدين!!!!
حتى أصبح ذو القلب الحي ينكر من يراه وما يراه، فلا الوجوه بالوجوه التي يعرف! ولا الأعمال بالأعمال التي يعهد! ولا العقول بالعقول المستنيرة! ولا الفهوم بالفهوم المنيرة!!”1
والدعامة الأساس لكي تُوفق لقلب حي ينير لك الطريق فتُرزق المنافع: الحرص -حثيثا- على الفقه والفهم والعلم النافع، ولو تبدلت الأحوال وتغيرت الوقائع! وتعددت الأسباب واختلفت الدوافع! فإن “العلم حياة ونور، والجهل موت وظلمة”2 وفتور!!
فكيف بعد هذا نتنكب طريق المعرفة والعلم، ونتتبع مجرد الرأي بل الوهم، وفي الوقت نفسه نطمح )بالتصور الصحيح(!، و)النظر السديد الرجيح(!!، فـ”كم من مريد للخير لن يصيبه”3 مع التنبه أن “كثرة النظر إلى الباطل تذهب بمعرفة الحق من القلب”4، فيحصل )القلق الفكري(!!! ويُوَلَّد الرأي القبيح، بعيدا عن الدليل الصريح.
ومن صور هذا المذكور النظر في )القضايا الفكرية( خصوصا دون دراية كافية بـ)قواعد علوم الشريعة(!، والولوج بـ)آليات هشة وهزيلة(!!، فتتربى في النفوس الآراء السقيمة، ولذا فالنظر في سوانح الأفكار بلا علم منضبط جنون، والسلامة مع ذلك من إصابة الأنظار ِبقُرحة لن يكون!!!
قال العلامة محمد الخضر حسين رحمه الله: “الآراء الفاسدة، والشبه المغوية، تربي في النفوس الضعيفة أذواقا سقيمة”5.
فالله الله في الحرص على طلب العلم وفهم القواعد، فهذه الأخيرة مهمة غاية لجمع المسائل الشوارد، وضبط الأمور وما هو وارد، كما تُعين على صحة النظر في العواقب ومعرفة المقاصد، خاصة زمن الفتن واتباع الأوابد 6 “فإن الفتنة يفتضح عندها خلق كثير”7، ويظهر إبانها التذبذب وما هو مرير!!
فـ”أفضل الأشياء التزيد من العلم، فإنه من اقتصر على ما يعلمه فظنه كافيا استبد برأيه، وصار تعظيمه لنفسه مانعا من الاستفادة”8.
وقد أنشد بعضهم قائلا9:
احرص على كل علم تبلغ الأملا **** ولا تواصل لعلم واحد كسلا
النحل لما رعت من كل فاكهة **** أبدت لنا الجوهرين: الشمع والعسلا
الشمع بالليل نور يُستضاء به **** والشهد يُبري بإذن البارئ العللا
وليعلم أن من أسباب جودة فهم العلم وأصوله والثبات على طلبه وسلوك مسلك أهله: أخذه عن أربابه المحققين له10، مع سهر الليالي للنظر فيه، والخلوة لجمع أطرافه11، ومحبته وشدة النهمة لتحصيله12، فـ”عشاق العلم أعظم شغفا به وعشقا له من كل عاشق بمعشوقه، وكثير منهم لا يشغله عنه أجمل صورة من البشر”13.
و”سعادة العلم لا يورثك إياها إلا بذل الوسع، وصدق الطلب، وصحة النية”14.
فالعلم نور متى فقده القلب صار صاحبه “بمنزلة الحيران الذي لا يدري أين يذهب! فهو لحيرته وجهله بطريق مقصوده يؤم كل صوت يسمعه!!”15.
فلا تغفل -رحمك الله- عن العلم الشرعي القائم على الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة “فإنه أعم شيء نفعا، وأكثره وأدومه، والحاجة إليه فوق الحاجة إلى الغذاء، بل فوق الحاجة إلى التنفس، إذ غاية ما يتصور من فقدهما فقد حياة الجسم، وأما فقد العلم ففيه فقد حياة القلب والروح، ولا غناء للعبد عنه طرفة عين، ولهذا إذا فقد من الشخص كان شرا من الحمير، بل كان شرا من الدواب عند الله، ولا شيء أنقص منه حينئذ”16.
فوا أسفاه على التفريط في طلب العلم على أسسه وقواعده! ويا حزناه من التخلف عن ركوب جواد الفقه والأخذ بزمامه!! ويا غربتاه من فقدان التفقه والتبصر من معينه ووفق أصوله!! خاصة زمن الفتن والتغيرات وذيوع شبهاته!!!
فـ”العلم شيئان إما نقل مصدق، وإما بحث محقق، وما سوى ذلك فهذيان مزوق”17.
أورد الحاكم رحمه الله في ترجمة أبي عبد الله البخاري رحمه الله أنه قال: “كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا إنما يتذاكرون كتاب ربهم وسنة نبيهم، ليس بينهم رأي ولا قياس”18.
قلت : ولا مجرد أنظار، ولا محض أفكار تُجعل هي الحَكم والأساس.
فما أحوجنا زمن (الفتنة والتسارع)! وعند )المحن والتدافع(! وأيام )الإحن والتصارع(! إلى الرجوع للفقه والتحقيق، والعودة إلى الفهم والتدقيق، دون الركون إلى النظر والتزويق، أو الاعتماد على الرأي والتنميق، فإن العلم حقا وصدقا هو سبيل التوفيق.
وعليه “فإذا حكم العلم انقطع النزاع ووجب الاتباع، وهو الحاكم على الممالك والسياسات والأموال والأقلام، فمُلك لا يتأيد بعلم لا يقوم، وسيف بلا علم مِخْراق لاعب، وقلم بلا علم حَرَكَةُ عابث، والعلم مسلط حاكم على ذلك كله، ولا يحكم شيء من ذلك على العلم”19.
فهيهات هيهات..أن يكون لغير العلم الصحيح الحُكْم، وبسواه البعد عن سوء الفهم، وبدونه النجاة من الغرق في مستنقع الاضطراب والوهم، ومنه فـ”الشبهات الباطلة إذا أخرجها العلم ربت فوق القلوب وطفت، فلا تستقر فيها بل تُجفى وتُرمى، ويستقر في القلب ما ينفع صاحبَه والناسَ من الهدى ودين الحق، كما يستقر في الوادي الماء الصافي، ويذهب الزبد جفاء، وما يعقل عن الله أمثاله إلا العالمون”20.
فاستمسك -يا رعاك الله- بالعلم وقواعده ولا تستوحش من كثرة المخالفين فإن “سلطان العلم أعظم من سلطان اليد، ولهذا ينقاد الناس للحجة ما لا ينقادون لليد، فإن الحجة تنقاد لها القلوب، وأما اليد فإنما ينقاد لها البدن، فالحجة تأسر القلب وتقوده، وتذل المخالف، وإن أظهر العناد والمكابرة فقلبه خاضع لها، ذليل مقهور تحت سلطانها”21.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. هو العلامة صالح حفظه الله في كتابه (هذه مفاهيمنا).
2. مفتاح دار السعادة لابن القيم رحمه الله 1/231.
3. وهو من كلام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كما عند الدارمي رحمه الله في سننه 1/68-69، وسنده صحيح، انظر السلسلة الصحيحة 5/11.
4. قاله إبراهيم بن أدهم رحمه الله كما في حلية الأولياء 8/22، وشذرات الذهب 2/227.
5. رسائل الإصلاح 1/99.
6. في التوقيف على مهمات التعاريف: “الأوابد جمع آبدة، وهي الخصلة القبيحة، يبقى قبحها على الأبد” 1/101، وفي العين: “الآبدة الغريبة من الكلام، والجمع أوابد” 8/65.
7. كما قال الإمام الآجري رحمه الله في كتابه الشريعة 90.
8. صيد الخاطر لابن الجوزي رحمه الله 108.
9. انظر درة الحجال 3/49.
10. يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: “فكم من مسألة يقرؤها المتعلم في كتاب، ويحفظها ويرددها على قلبه فلا يفهمها، فإذا ألقاها إليه المعلم فهمها بغتة، وحصل له العلم بها بالحضرة، وهذا الفهم يحصل إما بأمر عادي من قرائن أحوال، وإيضاح موضع إشكال لم يخطر للمتعلم ببال، وقد يحصل بأمر غير معتاد، ولكن بأمر يهبه الله للمتعلم عند مثوله بين يدي المعلم، ظاهر الفقر بادي الحاجة إلى ما يلقى إليه” الموافقات 1/145 تحقيق الشيخ مشهور حفظه الله.
11. قال الإمام المعافى بن زكريا النهرواني الجريري، نسبة إلى مذهب ابن جرير الطبري رحمه الله في كتابه: (الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي) 1/164: “وقد كان بعض من كان له في الدنيا صيت ومكانة، عاتبني على ملازمتي المنزل، وإغبابي زيارته، وإقلالي ما عودته من الإلمام به وغشيان حضرته، فقال لي: أما تستوحش الوحدة؟ ونحو هذا من المقالة. فقلت له: أنا في منزلي إذا خلوت من جليس يقصد مجالستي، ويؤثر مساجلتي، في أحسن أنس وأجمله، وأعلاه وأنبله، لأنني أنظر في آثار الملائكة والأنبياء، والأئمة والعلماء، وخواص الأعلام الحكماء، وإلى غيرهم من الخلفاء والوزراء، والملوك والعظماء، والفلاسفة والأدباء، والكُتاب والبلغاء، والرُّجاز والشعراء، وكأنني مجالس لهم، ومستأنس بهم، وغير ناء عن محاضرتهم لوقوفي على أنبائهم، ونظري فيما انتهى إلي من حكمهم وآرائهم”.
12. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “فإن محبة الشيء وطلبه والشوق إليه من لوازم تصوره” مفتاح دار السعادة 1/121.
13. قاله الإمام ابن القيم رحمه الله في روضة المحبين 69 بتصرف يسير، وقال كذلك رحمه الله في المصدر نفسه 201: “ولو صُوِّر العلم صورة، لكانت أجمل من صورة الشمس والقمر”.
14. مفتاح دار السعادة لابن القيم رحمه الله 1/363 بتصرف يسير.
15. نفسه 1/410.
16. نفسه 1/310.
17. قاله شيخ الإسلام رحمه الله كما في الرد على البكري 2/729.
18. الفوائد لابن القيم رحمه الله 105.
19. مفتاح دار السعادة 1/296-297.
20. نفسه 1/249.
21. نفسه 1/244.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *