كانَ يجلِسُ وحيدًا في مقعده الوثير بالحافلة المُنطلقة إلى مدينة الرباط، وكان يحمل بين يديه كتابًا مترجمًا للكاتب الأمريكي هنري ميلر، عنوانه (الكُتب في حياتي).. يقرأ مستمتعًا بكلّ سطر من سطوره ويكرّر قراءة ما يستحقّ التّكرار حتّى يستقرّ في أعماقه، وكان يضع علامة بقلم رصاص تحت كلّ جملة تروقه ليعود إليها كلّما احتاج إلى ذلك في مراجعاته وكتاباته، وكانت تجلس بالمقعد الخلفي امرأة أربعينية لا تشي ملامحها بأي جمال غابر، كثيرة الشّكوى والتأفف، تحمل طفلاً صغيرًا فوق فخذيها قد يكون في الثالثة من عمره يبدو جائعًا وكئيبًا وغير راض عن عالمنا هذا، يغلق صاحبنا الكتاب لأنّه لم يستطع التّركيز بسبب بكاء الطّفل وثرثرة الأم مع جارتها في المقعد، منتظرًا الفرصة ليسترسل في القراءة بهدوء ولكن عبثًا، أقفل الكتاب ووضعه في حقيبته الصغيرة، وأَخرج الهاتف ليرى هل من جديد في عالم الافتراض بعد أن ضاق ذرعًا بعالم الواقع وبالمرأة وطفلها وصاحبتها وموسيقى السائق التي لا تدلّ إلاّ على قلّة ذوقه.
وجد رسالة من صديق تقطر أدبًا يلتمسُ فيها شيئًا من النّصح والإرشاد في عالم القراءة والمطالعة والعيش في أحضان الكتب، بعد أن تجمّع لديه عدد لابأس به من التصانيف في مختلف الفنون والعلوم، ولكنّه على حدّ تعبيره: بطيء في القراءة كثير النّسيان لما يقرأ، فيشعر وكأنّه يضيع وقته وماله في الكتب بدون كبير فائدة، وكلّما نظر إلى هذا الركام المنتصب أمامه من الكتب شعر بحرج شديد الوطأة.. فهو:
كالعيس في البيداء يقتلها الظما….والماء فوق ظهورها محمول.
يقول مستشهدًا.
انشرح صدره لهذه الرّسالة، واعتدل في جلسته، ونسي المرأة وطفلها والسائق وأغانيه الشعبية الرخيصة، وهو كما يعلم عنه كلّ من يعرفه يَطرب كثيرًا للحديث عن الكتب والمكتبات وعن القراءة والكتابة والأدب.
فها هو قد وجد ما يشغل به نفسه بدل القراءة، التي لم يستطع التركيز فيها بسبب ضجيج الرّكاب، والكتابة تختلف عن ذلك، وقد خطرت في باله الكاتبة التركية إليف شافاك التي ذكرت عن نفسها في سيرتها (حليب أسود) أنها لا تكتب إلا وسط الضّجيج. أما الهدوء فتضيقُ به وتكرهه، ولله في خلقه شؤون.
ثمّ شرع يكتبُ في مُفكّرة هاتفه ما يلي:
اسمعْ هُديتَ أيها المبارك: فلا توجد في الدّنيا متعة ولا سعادة و لا لذة أجمل من قراءة الكتب، وهذا لا أقوله كوني أملكُ عينًا لا ترى إلاّ الكتب، بل هو قول أغلب علماء وأدباء ومُفكري الشرق والغرب، ولولا خشية الإطالة لسردتُ في هذه الرّسالة مئات الأقوال في ذلك، وهذه حقيقة لا أظنّها تخفى على أمثالك.
أوّلا: أنا لا أنصحك بجمع الكتب هكذا عبثًا دون حسن اختيار وانتقاء، ولا ينبغي أن يكون جمعك للكتب مجرد شهوة كشهوات الذين لا يعلمون. فإني أعرف من النّاس من يشتري عشراتِ الموسوعات، وآلاف الكتب المجلدة ولا يعرف عن مضامينها إلا ما يعرف مُسيلمة الكذّاب عن جوهر الإسلام. فهو يشتريها ليضع بقربها فنجان قهوة أسود مقلّدا المثقفين وأشباههم ويلتقط معها صورًا للتباهي على مواقع التواصل.
ثانيا: هناك مقولة انتشرت بين القرّاء يقول صاحبها: حين نجمع الكتبَ فإنّنا نجمع السّعادة.
وهي مقولة ليست على إطلاقها، وتحتاج إلى تفصيل، فما نوع هذه الكتب؟ وما قيمة جمعنا للكتب إن لم نقرأها ونعمل بما فيها؟
فالكاتب الأرجنتيني الشهير خورخي بورخيس تخيّل الجنّة على شكل مكتبة، لكن (أظنّ من دون تنظيف هذه المكتبة من الأعشاب الضّارة، ستكون نوعًا من الجحيم الدنيوي).
إذًا ينبغي للقارئ أن يحسنَ انتقاء الكتب، واختيار الأجود والأفضل، فإن كان جاهلا فليسأل من له دراية واطّلاع على ذلك، قبل أن ينطلق إلى المكتبات والمعارض، حتى لا يملأ مكتبته بالبُرّ والخُشَار. بالذّئاب والثّعالب وبنات آوى.. وكثرة الكتب لم تكن في يوم من الأيام غاية بل هي وسيلة نقتنيها لنرفع عن أنفسنا ذلك العار الإنساني (إنّه كان ظلوما جهولا).
فالقراءة فنّ وعمل إبداعي، والكتاب من دون قارئ مُتحمّس يموتُ. والقارئ الجيّد كالمؤلّف الجيّد. كما يقول هنري ميللر.
ثالثًا: إذا كنت طالبَ علم أو باحثًا فيحلو لي أن أذكّرك أنّه لا يوجد في الدّنيا عالِم ولا أديب ولا كاتب ولا شاعر قرأ كلّ ما لديه من كتب، قراءة تامّة غير منقوصة ، بمعنى أن يقرأ كلّ كتاب مهما بلغ عدد مجلداته من ألفه إلى يائه. فهذا تفنى دونه الأعمار، لاسيما في عصرنا الحاضر، عصر السُّرعة… فهناك كتب موسوعية لا يُرجع إليها إلا للضرورة، وهناك كتب نقرأ فيها فصلا أو فصلين والباقي لا حاجة لنا به، وهناك كتب لابد من قراءتها كلّها كالمُذكّرات والسير الذاتية والغيرية والرّوايات التي تستحق، (وإلا فلا أرى من الحكمة إضاعة الوقت والمال في كلّ هراء يُقال عنه رواية )..وهناك المعاجم اللغوية التي لا نفزع إليها إلاّ حين يغلب علينا الجهل في لفظة لا نعرف معناها واشتقاقها وتصريفها، وهكذا في جميع فنون العلم وألوان الأدب.
المفيد أن تكون المراجع والمصادر متوفّرة في بيوت العلماء والباحثين وطلبة العلم، فيشعرون بلذة لا يعرف طعمها إلا من ذاقها.
فعلى الأقل وجود المكتبة في البيت يدعوك إلى القراءة، إلى البحث، إلى تتبع ما يروقك من موضوعات، ومقالات، وقصائد، حتى وإن كانت هذه القراءة لا تتجاوز عشر صفحات في اليوم فهي لا تخلو من فائدة ومتعة.
قال أحدُ مفكري الغرب: أولئك الذين يرون مكتبتك ويسألونك (هل قرأت كل هذه الكتب؟ هم أناس لا علاقة لهم بالقراءة)..
رابعًا: أمّا مسألة النّسيان، نسيان ما تقرأ فكلّنا ننسى ما قرأنا مع الأيام، وهذا ليسَ عيبًا فاسمع ما قال د. سلمان العودة في كتابه (زنزانة؛ ص:116): قلتُ مرّة لشيخي: قرأتُ الكتابَ ولم يعلق شيء منه في ذاكرتي؟ فمدّ إليّ تمرةً وقال: امضغها، ثمّ سألني: هل كبرتَ الآن؟ قلتُ: لا، قال: ولكن هذه التمرة تقسّمت في جسدك فصارت لحمًا وعظمًا وعصبا وجلدا وشعرا وظفرًا وخلايا.
فأدركتُ أنّ كتابًا أقرأه يتقسّم، فيعزّز لغتي، ويزيد معرفتي، ويُهذّب أخلاقي، ويُرقّي أسلوبي في الكتابة والحديث ولو لم أشعر.
وفي كتابه (مُذكرات قارئ؛ ص:378) يرى الدّكتور الأحمري أنّ خير قراءاتك تلك التي تنساها وتنسى نصوصها، وأحيانًا مواضعها !
لماذا؟ لأنّك تتخلّصُ من سُلطة كتاب أو مُفكّرٍ عليك، فأنتَ تتخلّص نفسيًا وتخلص تجربتك ومعرفتك، وتتحسّس ذوقكَ ويقينك ومِزاجكَ. وركام هذه القراءات يطل من كلّ زاوية، وأنفعه أبعده، وأكثره ضغطًا عليك أقربه. وربما تنتصرُ الفكرة القريبة لمجرّد القرب والذِّكر، وليس بسبب صحّتها أو صوابها. اهـ
توقفت الحافلة في محطتها الأخيرة، فتوقّف صاحبنا عن الكتابة مُكرهًا، على أمل أن يكمل كتابته في مقبرة كتبه، والتي يعيش حارسًا لها منذ عشرين سنة.
وعلى ذِكْر (مَقبرة كتب) التي يجعلها شعارًا له في بعض مواقع التواصل، فقد علّقت عليه سيّدة في موقع (تويتر) تعليقًا أعجبه قبل أيام تقول فيه: فعلا المكتبةُ مقبرة للأقلام، فهي تجمع عقولَ وآثارَ الأعلام، والقبرُ في معناه حفظ لكرامة الإنسان، والعربُ تزيّنه بمضرب الأمثال كقولهم: (قلوب الأحرار مقابرُ الأسرار).
ودامت لكم المَسرّات.