يمكن للعقول في مرحلة من مراحل التعاطي أن تستعظم الباطل وتظن به ظنون الصلاح وإمكانيات الفلاح، وذلك بقيد أن يكون تعاطيها هذا؛ والباطل في مراحل التنظير ومراتب التسطير وضجة عرض أسهمه في بورصة القيم الإنسانية، ولذلك فالناظر بذاكرة تتميز بقوة الاجترار الماضوي يتذكر كيف كانت الإيديولوجية الاشتراكية والشيوعية تنتشر بين صفوف الطلبة والنخب والعوام انتشار النار في الهشيم؟ وكيف كان النضال يقدم الضحايا والتضحيات التي صاحبها كل شيء بدءا بالأناشيد الثورية والأغاني الغيوانية المجملة الرامزة إلى ما يهيج النفوس ويحملها على تبني الإلحاد الأحمر؟
لقد كان أصحاب هذا الفكر المروجون لبضاعته من جملة أولئك الذين وصفهم القرآن الكريم أنهم من الذين يعجبك قولهم في الحياة الدنيا، وعليك بعد هذا أن تتخيل أو تستحضر حجم المنبهرين والمسحورين بهذا القول الذي يعجب ولا يعزب عنه ذلك المجهود الذي يمكنه أو أمكنه أن يحجب عن معشر المسلمين حقيقة هذا الفكر الأحمر الذي قامت قيامته على مبادئ كره الإسلام، ومقت المنتسبين له، ودفع المروجين لبضاعته المزجاة إلى صناعة أفخاخ الشر لنا حالا، مستشرفين لما قد يكون أدهى وأقسى وأنكى على أمتنا مآلا ومستقبلا.
يتم كل هذا وأكثر في مناخ هرج الانتصار لطبقة الكدح طبقة البروليتاريا، وكبح جماح استبداد الإقطاع واستعباد النخب الحاكمة، ولأن الأيام دولة؛ وفي دائرة الاجترار الماضوي يتذكر الكل أيام أن بلغ الرفاق إلى سدة الحكم، حيث انقلب القول الذي يعجب إلى سعي يهلك الحرث والنسل، وبيع لا يبقي ولا يذر، وسياسة حكومية لواحة للبشر، يمكن أن نختزل ما وصلت إليه من انفصام بين الوعد والإخلاف في قضية كان بطلها نائب برلماني فضل أن يلقي سؤالا شفاهيا على وزير مالية حكومة التناوب اليسارية، سؤال لا نستحضر فحواه ولكن كان الجواب فارغا يحيل على سراب المخططات الخماسية والسباعية، لكن تعقيب النائب البرلماني حمل المفاجأة التي يمكن أن نبتسر فيها الحقيقة البشعة لذلك القول الذي كان يعجب، لقد أخبر النائب الوزير اليساري أن عين السؤال المطروح هو باللفظ والمعنى سؤال سبق أن طرحه الوزير اليساري أيام كان في صفوف المعارضة التي طالما كان قولها يعجب، ولم ينس هذا النائب أن يذكر سعادة الوزير اليساري أن جواب ذلك الوزير كان أعدل وأفضل من جوابه، ومع ذلك لم يسلم من عربدة تعقيبه الجريء النابز.
والواقع أن التجربة اليسارية في الحكم أبانت عن شرخ بين الملفوظ والمسطور وبين السلوك والمنظور، لقد لمسنا الاختلال بين قوة الخطاب ونصاب الأخلاق المطلوبة، فبينما تراءى جيل الرفاق بخوارق في التنظير إذ اكتشفنا أنه لا يمتاز في طباعه في شره وطمعه في لهوه ونزقه بل ظلمه وتكالبه، فبينما هو قد استجمع وسائل التنفيذ إذ هو على امتيازه اكتشفنا أنه لا يدري كيف يسوس، وأنه لطالما ربى نشأه الفكري ليئده في جبانة التاريخ وتلك ولابد سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا ولا تحويلا..
واليوم نرى بقايا ذلك الفكر وسخائم رفاقه تلملم الصفوف وتضم الشتات؛ غايتها استرجاع تلك الجعجعة القديمة عبر انحيازها إلى صفوف المعارضة، ولكن هيهات ثم هيهات أن يتحول الزبد الذي ذهب جفاءا إلى زبد ينفع الناس، فيا أيها الرفاق؛ إن حبل الوهم كان قصيرا وبهرجة الآمال التي كانت عربونا أبانت عن صلافة الضالعين في ذلك الغبن الذي دفعنا فيه زكاة الحول والنصاب ولم نجن إلا السراب والخراب، وبين هذا وذاك نبشركم أن ذاكرة الأمة ستظل نابضة ترفض في شموخ وإباء أن تنحني لتدليس المعارضة التي صارت تمارس على غير العادة بالثواني والدقائق من عمر حكومة الأغلبية الإسلامية.
ونحن إذ نجتر هذا الابتسار الذي فات عهده ومات وعده ليس مرادنا التحذير، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم علّمنا أن المؤمن لا يلدغ من الجحر مرتين، وليس مرادنا النبش في لحد جبانة الوأد السياسي فكل أفضى إلى ما قدم، ولكن المراد هو التنبيه على ذلك القياس الذي سرى جريانه على ألسنة الناس عوامهم ونخبهم، والذي مفاده أن تجربة حكومة العدالة والتنمية هي استنساخ لتجربة اليسار في الفشل ومواصلة السعي وراء السراب وغنيمة قبض الريح، وأن الأمر لا يعدو أن يكون سيادة تباريح تطال العمق الوجداني للأمة سرعان ما ستدب روح الصحو من الخدر منها، وهو على أيٍّ؛ قياس عند التنزيل تشوبه الفوارق، ذلك أن فشل اليسار في تطبيق نظريات الفكر الأحمر ليس مرده حصرا إلى ما تميز به المنفذون والمتنفذون من انسلاخ ونزق أبان عن جوع إقطاعي فحسب، بل مرد ذلك الفشل الذريع إلى بذور الفناء -على حد تعبير المنظر الأول- التي جاء الفكر الاشتراكي حاملا لها منذ الاستهلال الأول وإلى حين إعلان الوفاة الحقيقية بسقوط الاتحاد السوفياتي في أواخر الثمانينات قبل نصاب الألف التي تنبأ بها الأب لولده، وقد كذب المنجمون ولو صدقوا والله سبحانه لا يصلح عمل المفسدين.
وهذا على العكس إذا ما قدر الله أن فشلت تجربة الأغلبية الإسلامية، ونضع سطرا أحمرا سميكا على كلمة الأغلبية، فإنه وكما لا يخفى فبضاعة الكم الحكومي هي بضاعة مزجاة دعت إليها ضرورات التكتل وخلق الفارق العددي، فهذا لا يمكن أن يخلق عودا على نظرية الحكم الإسلامي بالنسف والنقض والتاريخ بيننا وبين المزايدين في هذا الباب، ولسنا في حاجة إلى التذكير بميراث الأسلاف في باب الحاكمية فإنه لا يرد إلا على عناد وجحود وإقصاء لا مبرر له، وإننا إذ نتذوق حجم الرهان ونتلمس صفوان الأعباء المتراكمة وندرك ضعف التجربة وقلة الحيلة وقوة حبل المسد الذي تطوق به المعارضة المدخونة القصد جيد الإشراف الذين يتأبطون خير الإصلاح، ونعلم علم اليقين أن ما أفسدته السنين والأعوام لا تصلحه الشهور والأيام، فإننا كذلك تعلمنا منكم أيام كنتم في صفوف المعارضة أن العاجز كالميت، وأن الوهن والحزن هو سمة الخوالف البطالين، وأنكم يومها كنتم تعلمون حجم الفساد وشواكل الإفساد ودور المفسدين وقوائم أعيانهم وحجم سرقاتهم ودناءة إترافهم، ومع ذلك كنتم تستشرفون سدة الحكم بالغلبة لا لأن تصفوا معشر من سلف بالعفاريت، ولا لأن تكشفوا عن قوائم المستفيدين من الريع كشفا مع وقف تنفيذ الاستئصال فيموت العارف حنقا من حجم المعلومة الثقافية، ويقول قول من سيقول: يا ليتني لم أدر ما حسابيه.
فإن قلتم: إن الحكمة تقتضي الإصلاح بالتدرج، قلنا: إنه لا تدرج في تحليل حلال وتحريم حرام، وإنما دائرته التدافع بين المصالح والمفاسد واستشراف الترجيحات غير القادحة فيما لبستم جبته من سندس أخضر خرج على إثره، أو عاد بعدما كاد يمسك المصوت مهرولا في مسعى تلك الصناديق الزجاجية التي أوصلتكم إلى سدة الحكم، ولا منّ فإن المنان هو الله، ولكن من حقنا خارج دائرة المنّ أن نعرف حجم وقوة المانع الذي يمنع شرعا لا كونا من تحريم الحرام واستئصال شأفته، بل التقليل منه بشرط ألا يأتي المجهود موزعا على لعبة إصلاحات المخططات الخماسية والسباعية، بل على شاكلة قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: “استعن بالله ولا تعجز”، والمرء في دائرة الإحسان لا يلام فوق طاقته، إذ أي لوم والحال هكذا؛ هو لوم مغبون لقصد مدخون.