القول في الدين بين الانضباط والتسيب  د. محمد عوام

  • القول في الدين مباح للجميع،
  • الاجتهادات الفقهية التي ظهرت منذ زمن إلى يومنا هذا، ما هي إلا مجرد آراء صدرت عن أصحابها غير ملزمة لغيرهم؟
  • الفتوى تعبير عن وجهة نظر صاحبها، وليست حكما لله تعالى، هم رجال ونحن رجال.
  • ليس في الدين قطعي، ما تحسبه أنت قطعيا، ليس بالضرورة أن يكون كذلك الشأن فيه عندي.
  • كل ما في الدين خاضع للاجتهادات، وقابل للتأويلات وتعدد التفسيرات، الكل يعبر عن آرائه.
  • لا ينبغي أن ننظر بنظارة الشافعي، فأصول الفقه أصبحت متجاوزة فهناك سمو المبادئ الكونية والمواثيق الدولية.

وهلم جرا من المقالات والآراء التي سمعنا بها منذ زمن غير يسير، وأصحابها لا يخفون على عموم الناس بله على الراسخين في العلم، من حيث اتجاهاتهم الفكرية والعقدية والسياسية.

والحق أن كل مقالة مما ذكرنا وما لم نذكر تعبر عن إشكال عميق بين اتجاهين مختلفين، نتيجة اختلاف مقولاتهما ومبادئهما المعرفية والعقدية، وهما الاتجاه الإسلامي والاتجاه العلماني، أو بين الإسلام والعلمانية. والحق أن القضية تحتاج إلى تحرير وتدقيق، لدفع الشبهات التي تثار حولها، ورفع الإشكالات التي تلتف بها، ودحض الافتراءات التي يشغب بها أصحاب الملل والأهواء والنحل على نصاعة الدين، والنيل من تراثه ورجالاته، فيفتحون بذلك بابا للتسيب، بدل الانضباط والتقيد.

ومادام المجال لا يتسع لخوض غمار البحث في كل القضايا والمسائل المثارة هنا، فإنني أود التطرق إلى بعض منها.

القضية الأولى: مبدأ التخصص أساس العلمية

أود أن أقرر مبدأ علميا وواقعيا، وأزعم غير مرتاب أنه من البداهة بمكان، وأسميه مبدأ التخصص الذي هو أساس المعارف والعلوم، ذلك أن جميع العلوم والصنائع والحرف، مرجوع القول فيها إلى أصحابها، الراسخين المتفننين فيها، الضابطين لقواعدها وأصولها ومناهجها. فلا تجد عاقلا يريد إصلاح سيارته مثلا يبحث أو يذهب إلى النجار أو الحداد، ويترك الميكانيكي صاحب الصنعة والخبرة. ولا تكاد تجد مريضا بدل أن يذهب إلى الطبيب، يستبدل غيره به. فلا جرم إذن أن كافة العلوم والصناعات خاضعة للتقعيد والضبط والتخصص.

ولا يخفى أن العلوم منذ أمد غير يسير، نتيجة توسعها وتشعبها، أخذت في الاستقلال والتخصص. فقد كانت الفلسفة تسمى أم العلوم، حيث تندرج تحتها فروع علمية كثيرة منها الرياضيات والمنطق والفلك والإلهيات وغيرها. فاليوم لا نجد أحدا يحسب الرياضيات فرعا عن الفلسفة.

واليوم بفضل التطور العلمي الهائل الذي يعيشه عالمنا المعاصر، والذي لا مثيل له، لم يعد أرباب العلوم يتحدثون عن التخصص في مجال من مجالات علم معين، وإنما أصبحوا يتكلمون عن التخصص الدقيق فيه، الذي هو أكثر دقة وتخصصا من مجرد التخصص، إذن فنحن أمام ثلاثة تصنيفات: التخصص العام، والتخصص، والتخصص الدقيق.

والعلوم الإسلامية نفسها لم تحد منذ نشأتها وتدوينها عن هذا المهيع، حيث خضعت لقضية التخصص، فوجدنا علم الفقه، وعلم الحديث، وعلم العقيدة، وعلم أصول الفقه الذي كان يطلق عليه أصول العلم، وعلم التفسير، وغيرها من العلوم الإسلامية. وقد تخصص في كل منها علماء وباحثون.

على أن مظاهر التكامل المعرفي بين العلوم الإسلامية، وتداخلها أحيانا كثيرة على مستوى التوظيف، لا يخفى على المتخصصين، بحيث يصعب استغناء بعضها عن بعض، وهذا ما نسميه بـ”التنوع المنهجي والتكامل المعرفي” فهذه إذن ظاهرة تهيمن بشكل بارز على العلوم الشرعية، إذ من الصعوبة بمكان أن ينفصل بعضها عن بعض، وبخاصة على مستوى التنزيل والتطبيق. ومع ذلك فإن مرجع القول في كل علم منها إلى ذوي الشأن فيه من علمائه والمتبحرين والراسخين فيه.

وقد ألمع الشافعي إلى فكرة التخصص هذه بقوله “لَا يَجُوزُ لِعَالِمٍ بِسُوقِ سِلْعَةٍ مُنْذُ زَمَانٍ ثُمَّ خَفِيَتْ عَنْهُ سَنَةً أَنْ يُقَالَ لَهُ قَوِّمْ …وَلَا لِرَجُلٍ أَبْصَرَ بَعْضَ صِنْفٍ مِنْ التِّجَارَاتِ وَجَهِلَ غَيْرَ صِنْفِهِ وَالْغَيْرُ الَّذِي جَهِلَ لَا دَلَالَةٌ عَلَيْهِ بِبَعْضِ عِلْمِ الَّذِي عَلِمَ قوِّم كَذَا، كَمَا لَا يُقَالُ لِبَنَّاءٍ اُنْظُرْ قِيمَةَ الْخِيَاطَةِ وَلَا لِخَيَّاطٍ اُنْظُرْ قِيمَةَ الْبِنَاءِ،…” (الأم 7/317).

واليوم وجدنا بعض الناس ممن يدعون انتسابهم إلى العلم والمعرفة، وبخاصة منهم أنصاف المثقفين من أصحاب الأهواء يتطفلون على العلوم الإسلامية، ويخوضون في تفسير الدين بحسب ما بدا لهم، متذرعين بكون الدين للجميع، وليس حكرا على أحد. وهي حجة واهية داحضة. لأنه في ميزان العلم لا بد أن نعترف أن الدين أو العلوم الإسلامية تخصص، له أسسه العلمية والمعرفية، وله فحوله ورجالاته، مثلما للتخصصات الأخرى.

القضية الثانية: هل القول في الدين مباح للجميع؟

في نظري هذه المقالة تتسم بالإجمال، مما تحتاج معه إلى بيان، وبيانها هو تحرير محل النزاع فيها، لأن القول في الدين قد يكون مباحا، وقد يكون واجبا، وقد يكون حراما، وقد يكون مندوبا ومكروها. وذلك بحسب المتكلم من هو؟ والقضية المتكلم فيها ما هي؟ أما أن يكون الكلام أو القول في الدين مباحا بهذا الإطلاق والإجمال فهذا لا يستقيم الحديث عنه.

ونحن نفترض لتحرير محل النزاع في المسألة ثلاثة مستويات للقول في الدين، وهي:

أولا: مستوى التعميم، أو المستوى العام (المعرفة العامة) وأقصد به أن جميع الناس بشتى مستوياتهم وطبقاتهم، لهم الحق أن يتكلموا في الدين، إذ أنهم اكتسبوا معرفة بدينهم منذ صغرهم ونشأتهم، وقد توارثوا هذه المعرفة أبا عن جد، وخلفا عن سلف، وبخاصة المعلوم من الدين بالضرورة، من العبادات وتحريم المحرمات، وبعض قضايا المعاملات من تحريم الربا والغش وغيرها. ولا شك أنهم سمعوا العلماء والخطباء يتكلمون ويشرحون ويبينون ويوضحون ويفسرون ويقررون كثيرا من الأحكام الشرعية. فمن غير المعقول أن يحجر على الناس أن يتكلموا في دينهم. فحتى غير المسلمين من الأقليات التي نشأت وترعرعت بين ظهراني المسلمين، بحكم احتكاكها بهم، تعرف عن الدين الإسلامي الشيء الكثير مما هو عام ومتداول بين الناس.

ثانيا: مستوى التثقيف أو المستوى الثقافي (المعرفة الثقافية)، ونعني به عامة المثقفين الذين أخذوا حظا من الثقافة الإسلامية، في المدارس والجامعات، إذ المقررات الدراسية وبخاصة في الابتدائي والثانوي وكليات الحقوق والآداب لا تخلو من أن تتضمن فروعا علمية إسلامية، ناهيك عن شعب الدراسات الإسلامية والشريعة الإسلامية وغيرهما. فهذا المستوى يخول لأصحابه أن يتكلموا في الدين بحسب ما فقهوا وتعلموا. ولا سيما إذا انكب بعضهم على إتقان ما تعلم. فلا ينبغي لأحد أن يحجر على المثقفين أن يتكلموا في دينهم ويلجمهم عن الكلام، ولكن من حق غيرهم أن يصوبهم أو يخطئهم أو يصحح لهم. ونحن نتحدث هنا عن عموم المثقفين الذين يكنون لدينهم الرضا ولتراثهم التقدير، ولا أتحدث هنا عن المنكرين والمتلكئين من العلمانيين واللادينيين.

ثالثا: مستوى التخصص، أو (المعرفة التخصصية)، ونقصد بها أن يحرز المرء على درجة علمية عالية، ومعرفة دقيقة بالعلوم الإسلامية وبمناهجها، تمكنه من فهم الدين فهما عميقا وسليما، وتخول له القول فيه استنباطا واجتهادا بناء على الأدلة والأصول. والحق أن هذه الدرجة لا تكفي فيها تحصيل الشواهد الجامعية العليا وحدها، وإنما لا بد من التمكن والرسوخ في العلوم الإسلامية، أو في فرع من فروعها، ببذل الجهد واستفراغ الوسع من أجل الدراسة والتحصيل العلمي والمعرفي، واستيعاب الواقع والاطلاع عليه وفهم قضاياه ومستجداته وتطوراته وإشكالاته. وهو ما يعبر عنه بفقه الدين وفقه التنزيل. لا جرم أن من بلغ هذه الرتبة من التحصيل حق له القول في الدين من غير تحرج.

القضية الثالثة: الاجتهادات الفقهية ليست آراء مجردة

إذا استبانت هذه المستويات الثلاث واتضحت، فإنه قد يظن بعض الناس أن القول في الدين مباح للجميع من غير قيد ولا شرط، ولا دليل ولا أصل. وقد يعتبر بعضهم هذا ضربا من تقييد حرية البحث والتحجير على الباحثين والدارسين، ولا سيما ونحن في عصر يدعو ويناضل من أجل الحرية والكرامة والعدالة. لذلك وجدنا أصواتا تتعالى من هنا، وترتفع من هناك تنادي بحقها في الاجتهاد، وأن الاجتهاد ليس حكرا على العلماء، ففرقوا على إثر ذلك بين العلماء المتنورين والعلماء الجامدين، ليس هذه المرة بمقياس الدين وعلومه فحسب، وإنما بمقياس العلمانية ومدى استجابة الاجتهاد حسب زعمهم للمواثيق الدولية  والمبادئ الكونية.

والحق أن الأمر ليس على هذه الشاكلة، وليس هو كذلك، لأن المعرفة العلمية كيفما كانت نوعها تنبني على أمرين مهمين: الأول: الدليل، الثاني: طريق الاستدلال. من ثمة كان العلم هو المعرفة المبنية على الدليل والاستدلال. وما عداه فيعد ضربا من التفكير الخيالي أو الأسطوري أو الفكر الخرافي.

لذلك لا يقبل قول قائل من غير حجة أو برهان، سواء في الإثبات أو النفي، والذي لا يملك الدليل أو البرهان فالسكوت أولى به. من ثمة وجب على الأمة أن لا تقول إلا عن دليل مثلما أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا عن وحي، وفيه حكى أبو الحسين البصري والجويني الإجماع. فأما أبو الحسين البصري (توفي436ﻫ) المعتزلي فقد عقد بابًا (في أن الأمة لا تجتمع إلا عن طريق) ذكر فيه «أن الأمة لا تجتمع إلا عن دلالة أو أمارة، ولا  تجتمع عبثًا…ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا عن وحي، فالأمة أولى أن لا تقول إلا عن دليل.» (المعتمد في أصول الفقه 2/56)

وأما الجويني فقد نقل الإجماع عن الأصوليين في هذه المسألة في (التلخيص في أصول الفقه) فقال: «أجمعت الأمة قاطبة على أن من قال قولاً بغير دليل أو أمارة منصوبة شرعًا، فالذي يتمسك به باطل. ثم أجمعوا على بطلان اتباع الهوى» (التلخيص في أصول الفقه 3/314).

وهو المسلك نفسه الذي صار عليه الظاهرية وعلى رأسهم ابن حزم، فقد صرح بأن القول بلا دليل ولا حجة ولا برهان «حرام بنص القرآن وإجماع الأمة» (الإحكام في أصول الأحكام 5/51).

من هنا كانت الاجتهادات الفقهية مبنية على أدلتها وليست من قبيل الرأي المجرد المرسل على عواهنه، العاري عن الدليل، الفاقد للحجة، كما يوهمنا به بعضهم، فيشغب على الناس ويدلس. ومن هنا كان المخطئ في اجتهاده الذي هو من أهله مأجورا، أجرا واحدا، لأنه استفرغ وسعه وجهده من أجل الوصول إلى حكم شرعي بإعمال القواعد والضوابط المنهجية للاستنباط، ولو أخطأ الوصول. أما غيره ممن ليس بأهل لذلك، ولا يعد في العير ولا النفير، فلا شك في تأثيمه. وعلى هذا وقع قول الشافعي في كتاب (الأم): «ولا يكون الاجتهاد إلا لمن عرف الدلائل عليه» (الأم 7/277).

فمن تحدث بلا علم، ولا دليل، ولا دراية، ولا منهج، فحديثه مردود عليه، وعُدَّ متكلفا لما يجهل، وإن وافق الصواب لم تكن موافقته له محمودة. يقول الشافعي مبينًا هذا الأمر: «ومن تكلف ما جهل، وما لم تثبته معرفته، كانت موافقته للصواب -إن وافقه من حيث لا يعرفه- غير محمودة، والله أعلم، وكان بخطئه غير معذور، إذا ما نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الخطأ والصواب فيه» (الرسالة 53).

فلا جرم أن موافقته للصواب تكون غير محمودة، لأنها لا تنبني على منهج علمي، ودليل وطريق في الاستدلال واضحين، وإنما جاءت موافقته للصواب على موافقة الحظوظ والظنون، التي غالبًا ما يكون التكلف والجهل سائقها وقائدها. وهذا بالطبع مخالف للقواعد العلمية والمعرفية، إذ تحكيمها أمر ضروري وآكد، وإن نجم عنه خلل أو خطأ، فإنما ذلك يرجع إلى سوء إعمالها وتوظيفها من قبل المجتهد على غير جهة العمد، لأنه لا يعرى أحد من النقص والضعف. فمن ثمة كان مأجورا على خطئه، لرجوعه إلى تحكيم الدليل والقواعد الاستدلالية والعلمية.

وبهذا يظهر أن الكلام في الدين، أو القول فيه لا بد أن يكون مبنيا ومؤسسا على الأدلة، وأن الاجتهاد وجه من وجوه الكلام في الدين لا يخلو البتة من انبنائه على الأدلة، وقد تكفل علم أصول الفقه ببيانها وتفصيل القول فيها. أما التنكر لكل الضوابط العلمية، والتلكأ لكل الموازين العلمية النقلية والعقلية، فهذا لا يراد منه إلا التسيب والفوضى. والغريب أن من يفعل ذلك لا يجرأ البتة أن يفعل مثله مع باقي التخصصات الأخرى، ولكن -للأسف- حمى الدين اليوم وعلومه مستباح للجميع.

صلاحية الاجتهاد

وفي هذا السياق قد نتساءل من أين أتت صلاحية الاجتهاد؟ ومن خول للعالم أن يجتهد حتى يصبح اجتهاده وكلامه مسموعا أو معمولا به؟ لا يخفى أن من المعروف والمقرر عند كافة الناس، أن العلماء أو الخبراء أو الصناع، لا يملكون الخبرة في العلم أو الصناعة، أو غيرها من المجالات، حتى يقطعوا شوطا كبيرا، وزمنا طويلا في المعرفة والبحث والتنقيب، والتفنن والإتقان لما همتهم مصروفة من أجله. وهذا نحسبه من المسلمات والبدهيات.

فكذلك الشأن في الدين، فلا يصير العالم عالما، ولا المجتهد مجتهدا حتى يقطع مسافة في العلم والاطلاع تحصل له معها ملكة علمية تمكنه من الاجتهاد والاستنباط، أما الشادي المبتدئ ممن حصل طرفا من العلم من غير إتقان واطلاع واسع، فمثل هذا ليس له صلاحية الاجتهاد فمن ثمة كان المجتهدون -حقيقة- قلة. إذن فلا يحصل على درجة الاجتهاد في الدين إلا العاكف على العلم، المتمادي فيه، لا يكل ولا يمل. وهذا لا يعني الاقتصار على الحفظ فقط كما شاع وذاع في زمن من تراثنا، وإنما لا بد من المعرفة والتمكن فيها، والإحاطة بالواقع، لذلك قال السرخسي: “وَمن كَانَ حَافِظًا للمشروعات من غير إتقان فِي الْمعرفَة فَهُوَ من جملَة الروَاة” (أصول السرخسي 1/10).

ثم إن هذه الصلاحية يستمدها المجتهد من الدين نفسه، من ذلك قوله تعالى: “فلولا نفر من كل فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون”، فلئن كان النفير يقع في الجهاد حينما يداهم العدو ديار المسلمين ومدنهم وقلاعهم، فيجب كذلك أن يقع مثله في مجال العلم والمعرفة، بأن تنفر طائفة للتفقه في الدين، لتقوم بوظيفة الإبلاغ والإرشاد والاجتهاد. وطائفة اليوم ينبغي أن تنفر للتكنولوجيا والعلوم الحديثة لتنفع بها أمتها. قال ابن عاشور: “وَمِنْ مَحَاسِنَ هَذَا الْبَيَانِ أَنْ قَابَلَ صِيغَةَ التَّحْرِيضِ عَلَى الْغَزْوِ بِمِثْلِهَا فِي التَّحْرِيضِ عَلَى الْعِلْمِ، إِذِ افْتُتِحَتْ صِيغَةُ تَحْرِيضِ الْغَزْوِ بِلَامِ الْجُحُودِ فِي قَوْلِهِ: مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ [التَّوْبَة: 120] الْآيَةَ وَافْتُتِحَتْ صِيغَةُ التَّحْرِيضِ عَلَى الْعِلْمِ وَالتَّفَقُّهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ إِذْ يَقُولُ: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً” (التحرير والتنوير).

 

القضية الرابعة: تأثيم القائل في الدين بغير علم

فلئن كان القول في جميع العلوم والمعارف بغير علم يعد من الخطأ الجسيم الذي لا يغتفر، مما يجعل الواقع فيه فاقدا للمصداقية، غير معترف به ولا معتد بآرائه وأفكاره، فلا جرم أن القول في الدين بغير علم موقع صاحبه في الإثم، بل إنه من أشد أنواع الكبائر، لشدة ضرره على معتقده أو العامل به.

فكم من أقاويل نسبت إلى الدين، صدرت عن غير علمائه الراسخين فيه، جرت من ورائها ويلات عويصة، ومشاكل كبيرة، وتطرفا مقيتا. وكم من أقاويل باسم التجديد والاجتهاد تريد تغيير أحكام الله تعالى القطعية والمجمع عليها تبث وتشاع، وتروج وتذاع، ويريد أصحابها أن يلتمسوا لها من الدين ما يناصرها ويثبت أقدامها، ولو بلي النصوص وتأويلها، أو بإخراجها عن سياقاتها، أو بتحكيم المواثيق الدولية فيها، وجعلها أسمى منها. فلا شك في تأثيم هذين الاتجاهين المتطرفين، الداعين للفوضى والتسيب في الدين والتقول عليه بما لم ينزل به الله من سلطان.

لذلك كان القول في الدين من أشد المحرمات والكبائر. قال تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ” (البقرة 168،169) وقال عز وجل: “قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ” (الأعراف 33)

قال ابن القيم رحمه الله في معرض بيانه لهذه الآية الكريمة: “وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْقَوْلَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فِي الْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ، وَجَعَلَهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ، بَلْ جَعَلَهُ فِي الْمَرْتَبَةِ الْعُلْيَا مِنْهَا، فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (الأعراف:33) فَرَتَّبَ الْمُحَرَّمَاتِ أَرْبَعَ مَرَاتِبَ، وَبَدَأَ بِأَسْهَلِهَا وَهُوَ الْفَوَاحِشُ، ثُمَّ ثَنَّى بِمَا هُوَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا مِنْهُ وَهُوَ الْإِثْمُ وَالظُّلْمُ، ثُمَّ ثَلَّثَ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ تَحْرِيمًا مِنْهُمَا وَهُوَ الشِّرْكُ بِهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ رَبَّعَ بِمَا هُوَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَهُوَ الْقَوْلُ عَلَيْهِ بِلَا عِلْمٍ، وَهَذَا يَعُمُّ الْقَوْلَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِلَا عِلْمٍ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَفِي دِينِهِ وَشَرْعِهِ.”(إعلام الموقعين عن رب العالمين 1/31).

وبناء على هذا ينبغي للعاقل أن يحتاط من القول في العلم أو الدين، أو في أي شيء لا يحسنه ولا يتقنه ولا يعرفه بمجرد الظنون والأوهام والخيالات، احتراما لعقله، واحتراما لدينه، واحتراما لشخصيته الإنسانية من حيث هو إنسان متميز ومتفرد عن باقي الموجودات. أما من ملك حظا من العلم والمعرفة فلا ضير عليه ولا جناح أن يتكلم، لأنه ليس من شرط العالم أن لا يخطئ، وإنما من شرطه أن يقول بعلم، وينطق بحق.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *