2- قوله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} سورة النور22.
قصة الآية:
تذكر كتب التفاسير أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- كان ينفق على ابن خالته مسطح بن أثاثة المطلبي لقرابته وفقره، ولما خاض مسطح في قضية الإفك المشهورة، أقسم الصديق أن لا ينفق عليه، فنزلت هذه الآية تدعوه إلى الصفح والعفو، والرجوع إلى النفقة عليه ابتغاء مغفرة الله وثوابه.
قال القرطبي: …المشهور من الروايات أن هذه الآية نزلت في قصة أبي بكر بن أبي قحافة -رضي الله عنه- ومسطح بن أثاثة. وذلك أنه كان ابن خالته وكان من المهاجرين البدريين المساكين… وكان أبوبكر -رضي الله عنه- ينفق عليه لمسكنته وقرابته، فلما وقع أمر الإفك وقال فيه مسطح ما قال، حلف أبوبكر ألا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة أبدا، فجاء مسطح فاعتذر وقال: إنما كنت أغشى مجالس حسان فأسمع ولا أقول. فقال له أبو بكر: لقد ضحكت وشاركت فيما قيل، ومر على يمينه، فنزلت الآية. وقال الضحاك وابن عباس: إن جماعة من المؤمنين قطعوا منافعهم عن كل من قال في الإفك وقالوا: والله لا نصل من تكلم في شأن عائشة، فنزلت الآية في جميعهم. والأول أصح…
وفي الصحيحين أن الله تبارك وتعالى لما أنزل: {إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم} العشر آيات، قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره: والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله تعالى: {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة} إلى قوله: {ألا تحبون أن يغفر الله لكم}.
قال عبد الله بن المبارك: هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى، فقال أبو بكر رضى الله عنه: والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال: لا أنزعها منه أبدا.
الدروس والعبر المستفادة من الآية:
1- النهي عن الحلف: ذهب بعض المفسرين إلى أن قوله تعالى (ولا يأتل)، من الإيتلاء وهو افتعال من الألية، وهي اليمين (الحلف). إذن فاليمين التي لا قربة فيها إلى الله وتبين الخير في غيرها فالطاعة والأولى تركها، ولهذا نهت الآية عن الحلف عن فعل البر من إيتاء أولى القربى والمساكين، جزاء إساءتهم.
2- فضل الصديق -رضي الله عنه-: تبين الآية الكريمة فضل أبي بكر الصديق، وشرفه وكماله الديني، حيث التعبير عن فضله ومنزلته وهو فرد واحد بـ(أولوا) الدالة على الجماعة، تعظيما وتشريفا، وهو صحاب المناقب الغزيرة والفضائل الكثيرة، والتي منها صدقته وتكفله بنفقة ابن خالته مسطح. إنه أفضل الأمة بعد نبيها.
3- الترغيب في الإنفاق على أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله، وبيان فضل ومكانة صلة الأرحام، من خلال خطاب الترفق والعطف في الآية الكريمة، وإن قاطعوك وأساؤوا إليك.
4- بيان خطورة قذف المحصنات، والتنبيه على أن القذف وإن كان من الكبائر فإنه لا يحبط الأعمال، بخلاف الشرك، فهجرة مسطح من عمله الصالح، وقذفه لأم المؤمنين من الكبائر ولم يبطل ذلك هجرته، لأن الله قال فيه بعد قذفه لها والمهاجرين في سبيل الله فدل ذلك على أن هجرته في سبيل الله، لم يحبطها قذفه لعائشة -رضي الله عنها وأرضاها-.
5- من القواعد المهمة في شريعتنا المطهرة أن من أقيم عليه الحد تبرأ ذمته من الفعل المقترف ولا ينبغي الوجد عليه بعد إقامة الحد ولا تعييره بجرمه، ومعاملته بناء على سلف منه من فعل.
6- الحث على الإحسان إلى الناس وإن أساؤوا إليك، وعدم مقابلة إساءتهم بمثلها بل بأحسن منها وهو خلق الصفح والعفو وجعل ذلك تدينا، ابتغاء عفو وغفران الله عليك مقابل صفحك وتجاوزك عن عباد الله.
7- سعة رحمة الله وتفضله على القذفة العصاة، وتلطفه عليهم باللفظ في هذه الآية حتى اعتبرها بعض العلماء من أرجى الآيات.
8- سرعة استجابة الصديق -رضي الله عنه- لأمر الله ورجوعه لحكمه باستئناف الإنفاق على مسطح مباشرة من دون تردد ولا تفكير في يمينه ومستلزماتها ولا غيرها، فقال مباشرة بعد قوله تعالى (أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، قال: والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال: لا أنزعها منه أبدا.
والله تعالى أعلى وأعلم