لا شك أن ثمة فروقا بين الحالم بطوباوية الفكرة والواقف على تضاريس تمثلها، وفصام عملية عبورها من فضاء المسطور إلى ضيق المنظور، ولا شك أيضا أن النظرية ومهما كانت حبلى بالأخطاء والأباطيل والمهاترات قد تستلذها الطبائع وتتشربها النفوس وهي في رحم الفكر ومهد النظر.
ولذلك قد يكون من غير اللائق أن يعيب المرء على الذين أصابتهم حمى الاشتراكية وعدوى الملكية الاجتماعية من جيل الستينات والسبعينات والثمانينات، ضحايا الشعارات التي اختصرت الحل في تأليه الطبقة العاملة وانتصرت للضعفاء وأصبغت طلاء التأميم على اليابس والأخضر، باسم ما كنا نتلقاه بعفوية وبراءة من دروس في عوالم السفخوز والكلخوز ومظلومية البروليتاريا، في مقابل استبداد وتغول مظاهر الرأسمالية المتوحشة، وظلم عقائد وممارسات الإكليروس، بالإضافة إلى ما انطبع في ذهن العامة من صورة مثالية لتواضع النموذج الاشتراكي الشرقي الذي عاش يركب دراجة هوائية ويتنفس من على سرجها ريح التغيير والحرية.
وحتى نبقى بقرب المتاح لا المطلوب وحتى لا نتهم بالرجم بالغيب، فيسيل حبر التهمة ولعاب الرمي والإساءة، نفتح باب السؤال عن حقيقة وجود حزب مغربي ذي مرجعية اشتراكية تؤطره القوى الكادحة وينفذ برنامجه مناضل يركب سرج الدراجة الهوائية؟
وهل ما آمنت به الجماهير الشعبية من طوباوية الفكرة الماركسية عاشته إبان اعتلاء الرفاق سدة الحكم في المغرب فيما عرف بتجربة حكومة التناوب الاشتراكية؟
وهل كان الرفاق في برنامجهم الحكومي مخلصين لصراخهم القديم يوم كانت الاشتراكية سلاحهم التحرري الثوري الذي رفعوه في وجه الاستبداد الإقطاعي؟
ولعل من الإنصاف أن لا نغفل ونحن نستفهم التعريج على ذكر ما قدمته النخبة والعامة من تضحيات جسام من نفس ومال وثمرة كقرابين بين يدي الفكرة، بضابط أن من مات لتكون كلمة الله هي العليا فهو الشهيد.
ويكفي للتدليل على هذا وبعيدا عن الغوص حتى القعر، حيث ظلمة الاغتيال والتعذيب والاختطاف والاعتساف، إيراد إشارة من حجم ظهور السيد اليوسفي في مادة تلفزيونية تتعلق بالدفاع عن المعتقلين الفلسطينيين، ظهور كان كافيا بأن يحيل مدير تحرير الأخبار السيد العربي الصقلي على مائدة التأديب، حيث سيتم إيقاف نشاطه المهني وإحالته على العطالة الوظيفية، وربما حال قدر الموت دونه ليرى ويعاين صورة السيد اليوسفي تتصدر البرامج الإخبارية وتملأ حيزا مهما من واجهة تلفزتنا وهو يقود حكومة التناوب الاشتراكية.
تلك إشارة تختزل في رمزيتها الصورة المأساوية التي عاشها الرفاق وهم يؤسسون لفلسفة الصراع الطبقي بين من يمثل أدوات الإنتاج ومن يمثل علاقات الإنتاج، بغية تحقيق مطلب سيطرة الشعب على وسائل الانتاج والتحرر من القهر الاقتصادي، ولعلها بغية جامعة في باب التمييز بين الدلالات المتعددة لمصطلح الاشتراكية.
وهنا ننحرف ذات اليسار لننطلق من مسلمة أن عملية وضع بعض من تاريخنا السياسي في رفوف الخلف لا يجب أن يحول بيننا وبين جواز الاستدراك على سياقه الزمني الفائت، استدراك يفتح في وجهنا امتياز الرجوع إليه لتقليب أوراق موضوعاته وصفحات أحداثه، سيما وأن الذاكرة العربية عموما والإسلامية خصوصا باتت تعاني من فقدان مناعة التحيين والإحصاء و الذكرى، وهو ما أعطى ويعطي للفاشلين في تجاربهم السابقة جرأة العودة بتدليس لممارسة صراخ الأمس ليس بالأيام والدورات ولكن بالثواني والساعات، كما هو مسجل اليوم والرفاق يمارسون معارضة الإقصاء والشغب ووضع العصا في محرك السير الحكومي المتهالك، وإن أول مطالعة يجود بها هذا الاستدراك والرجوع والتقليب هو الوقوف على كارثة الانقلاب الذي مارسه الفعل الاشتراكي على فكره الاجتماعي.
ولا أدل على هذا المسارعة في فتح السوق المغربية المؤسساتية إبان حكومة التناوب الاشتراكية باسم الخصخصة على مصراعيه أمام جشع وأطماع الشركات المتعددة الجنسية ذات الرساميل العابرة الحاملة للواء الاستعمار الحداثي غير السافر، بينما تم تحويل الأبقار الضامرة إلى سلخانة الإفلاس والمقاربات الترقيعية.
بل عمل الرفاق على تكريس مفهوم دركية الدولة على حساب تقويض المفهوم الإنقاذي النبيل لها، حيث توقف السيل الذي كان مسترسلا من مباراة التوظيف لتحل محله آلية التوظيف المباشر، الذي فتح دولاب الإدارة المغربية أمام النفس الاشتراكي بشكل انتهازي إقصائي لم يحترم أدنى معايير التوظيف المتعارف عليها.
ولنتجنب الإيغال في سرد تفاصيل العبارة لنرجع لمزية الإشارة، فقد وقف في يوم من أيام التناوب نائب برلماني يمثل طيف المعارضة ليلقي سؤالا آنيا على وزير المالية يومها الاشتراكي فتح الله والعلو، ليجيبه هذا الأخير إجابة لم تبلغ نصاب الإقناع، وفي معرض التعقيب أخبر السيد النائب السيد الوزير أن عين السؤال بمبناه ومعناه مأخوذ من الأرشيف المحموم للمناضل اليساري “والعلو” زمن معارضة “العصا دون الجزرة”، وليستدرك هامسا أن جواب الوزير آنذاك كان أجدى في باب تحمل المسؤولية.
ذلك موقف يمكن أن نختزل في ملحظه الفاضح قضية جيل عاش يساريته بلسان جريء ينتج كل يوم وليلة آلاف الشعارات والنظريات التي انطوى في جوفها السرابي آلاف الأبرياء من المخدوعين من أبناء الأمة، وبينما كانت هذه قصة اللسان كان الجيب والقلب يراكم الثروة بإقطاعية استوعبت رمال البحر وثمار الشجر ومعادن الحجر، ونأت بأنموذجنا الاشتراكي الفريد عن تلك الصورة القمئة لذلك الذي عاش يتنفس اشتراكيته من على سرج دراجته الهوائية، وهي نأي يجب أن يظل حاضرا في وجداننا والإقطاعيون الاشتراكيون يمارسون اليوم معارضة النصب والتدليس والشغب، ظانين في ذلك الجدوى في إعادتهم إلى وجدان الأمة وتلك أمانيهم وقد كشفت زيفها تجربة التناوب سلفا.