مكانة العقل في فكر المدرسة السلفية في المباحث الكلامية -2- ذ.طارق حمودي

استعمال السلفيين العقل في مباحثهم الكلامية؟
لعل من أهم الأسئلة التي قد يطرحها كل باحث في المجال الكلامي والعقدي هو: ما هو مكان العقل في المنظومة العقدية السلفية؟ خصوصا وقد صنفت على أنها مدرسية نصوصية أو حرفية أو ظاهرية لا مكان للعقل عندها في مجال العقيدة بمختلف مكوناتها: (الطبيعيات) و(الإلهيات) و(النبوات)، ولا محل للحجاج العقلي والجدل في مباحثهم ومناظراتهم وتقريراتهم للعقيدة.
مع التنبيه إلى أن مجال الاتهام لهم كان ولا يزال أوسع من العقيدة، فقد اتهمت المدرسة السلفية بإهدار العقل وتعطيله مطلقا في كل شيء. وتفاوتت درجات التهم باختلاف الفرق المتهِمة، الشيء الذي دفع مخالفيهم قديما كالمعتزلة؛ وحديثا كالأشاعرة إلى وصفهم بعدم الأهلية والقدرة على مواجهة خصوم الإسلام من باطنية ونصارى وفلاسفة؛ ووسموا منهجهم بالعجز عن المواجهة الفكرية لخصوم الملة. وقد دافعت المدرسة السلفية عن نفسها بشواهد الواقع في كتابات أعلامها، وبينوا الجانب العقلاني في الفكر السلفي عند كبار منظريها، ولعل من أبرز مظاهره كما قال الدكتور مفرح القوسي:
( 1- نبذ التقليد؛ استخدام الأقيسة العقلية في الاستدلالات الشرعية1 ؛ اعتقادهم عدم وجود تعارض بين العقل والوحي)2 .
وأضيف أيضا استعماله في تقرير الربوبية والذب عن التوحيد ومناظرة الخصوم؛ بل وإثبات بعض الصفات الإلهية بالعقل مع الوحي كما سيأتي.

علاقة الوحي بالعقل عند السلفيين
تمثل العلاقة بين الوحي والعقل موضوعا محوريا في الخلافات بين السلفيين وغيرهم، فالعقل عند المدرسة السلفية وسيلة للفهم من جهة ووسيلة للاستدلال بعد الوحي من جهة، وهم بهذا لا يسقطونه بل يصححون مكانه من الوحي.
ولتلخيص نظرة السلفيين للعلاقة بينهما يقول ابن القيم رحمه الله: (إن الطريقة السلفية -الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة- عرفت للعقل منزلته ودوره الحقيقي؛ حيث جعلته مناطَ التكليف، وأحد الضرورات الخمس التي يجب حفظها ورعايتها، ووضعت ضوابط محددة تتفق مع قدراته وإمكاناته، فلم تطلق له العنان، بل جعلت له حدوداً ومجالات لا يجوز له تجاوزها وتعديها، ومن ذلك أنه لا مجال للعقل في الأمور الغيبيات. -وهذا من فضل الله ورحمته بالإنسان، حيث لم يكلّفه ما لا يستطيع-، وجعلت العصمة للوحي المتمثل في الكتاب والسنة، فلا تعارض عندها بين النقل الصحيح والعقل الفطري الصريح، وفي هذا تعظيم للوحي وجعله الحكم، وصيانة للعقل البشري من التمزق والانحراف، وللمجتمع من الفرقة والخلاف، ذلك أن دعوى المعارضة بين العقل والنقل هي أصل كل فساد في العالم..) 3.
وهنا يختلف السلفيون مع غيرهم..!
يقول أبو المظفر السمعاني السلفي (ت489هـ) رحمه الله: (واعلم: أن فصل ما بيننا وبين المبتدعة هو مسألة العقل فإنهم أسسوا دينهم على المعقول، وجعلوا الاتباع والمأثور تبعاً للمعقول، وأما أهل السنة، فقالوا: الأصل في الدين الإتباع والمعقول تبع، ولو كان أساس الدين على المعقول لاستغنى الخلق عن الوحي وعن الأنبياء، ولبطل معنى الأمر والنهي، ولقال من شاء ما شاء، ولو كان الدين بني على المعقول لجاز للمؤمنين أن لا يقبلوا شيئاً حتى يعقلوا) 4.
ويوضح ابن تيمية موقف السلفيين من تلك العلاقة بقوله: (اعلم أن أهل الحق لا يطعنون في جنس الأدلة العقلية، ولا فيما علم العقل صحته، وإنما يطعنون فيما يدعي المعارض أنه يخالف الكتاب والسنة) 5 فجعل التعارض بينهما من دعاوى المخالفين خلافا لمدرسته التي لا ترى ذلك.
وقوله: (لا يطعنون في جنس الأدلة) واضح في بيان موقفهم من العقل وأدلته ابتداء.
ويؤكد هذا الدكتور محمد عمارة فيقول: (لم ينكروه لأن السمعيات قد تحدثت عنه ..ولكنهم أنكروا العقل كما تصوره الفلاسفة اليونان ومن نحا نحوهم من علماء الإسلام وفلاسفته) 6.
وأهم مظهرين من مظاهر موقفهم من تلك العلاقة:
1- أن العقل عندهم موافق للوحي ابتداء
وهو الأصل عندهم، ومنه يصدرون. ولذلك استعملوه بطريقة موازية للنصوص حين احتاجوا لذلك، وشهدوا بنتائجه لما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة عندهم، فكانوا يرون أن العقل وسيلة شاهدة لا مقررة، فلم يستعملوا منهج المتكلمين في الاحتجاج والجدل به، بل ركنوا إلى المنهج القرآني في ذلك واستخدموا قوالب الأقيسة القرآنية، والمقصود قياس الأولى لا قياس الشمول ولا قياس التمثيل.
يقول ابن تيمية رحمه الله: (وهذا النمط هو الذي كان عليه السلف والأئمة كالإمام أحمد وغيره من السلف يسلكونه من القياس العقلي في أمر الربوبية وهو الذي جاء به القرآن) 7.
فرع: إثبات بعض الصفات بالعقل
ومن ذلك أنهم أثبتوا صفات لله تعالى بالعقل. وقد جعل ابن تيمية هذا.. القاعدة السابعة في كتابه العقيدة التدمرية 8 فقال:
(إن كثيرا مما دل عليه السمع يعلم بالعقل أيضا والقرآن يبين ما يستدل به العقل ويرشد إليه وينبه عليه).
ثم ذكر من أمثلة ذلك الحياة العلم والقدرة والإرادة والسمع والكلام والبصر بل والحب والرضا والغضب وكذلك علو الله تعالى ونسب ذلك إلى الإمام أحمد9.
بل أشار إلى إمكانية إثبات رؤية المؤمنين لربهم بالعقل فقال: (منهم من أثبتها بأن كل موجود تصح رؤيته، ومنهم من أثبتها بأن كل قائم بنفسه يمكن رؤيته وهذه الطريق أصح من تلك) .
ويقول ابن القيم رحمه الله في الدارمي عن كتابيه الرد والنقض: (فيهما من تقرير التوحيد والأسماء والصفات بالعقل والنقل ما ليس في غيرهما11) .
وفي خصوص صفة الكلام فقد أثبتها بعض نظار المدرسة كالإمام أحمد رحمه الله في كتابه (الرد على الزنادقة والجهمية). قال ابن تيمية رحمه الله: (السلف والأئمة وغيرهم لهم في إثبات كونه متكلما طريقان، فإنهم يثبتون ذلك بالسمع تارة، وبالعقل أخرى كما يوجد مثل ذلك في كلام الإمام أحمد وغيره من الأئمة) 12.

2- أنهم يقدمون الوحي على العقل المعياري عند تعارضهما
وقد اشتهر عند الدارسين كتاب كبير لابن تيمية في حجمه ومضمونه ومقصوده وهو كتاب (درء تعارض العقل والنقل)، وهو كتاب ألفه ابن تيمية للرد على الفرق الثلاثة المخالفة للمدرسة السلفية: (الفلاسفة) و(المعتزلة) و(الأشاعرة) خاصة إذ هو مقرر للرد على قاعدة الرازي في تعارض العقل والنقل. وفحوى الكتاب ورسالته أنه لا تعارض بين صريح العقل وصحيح النقل، ويقصد بالعقل العقل المطلق عن أن يقيد بشخص أو مدرسة.
يقول ابن تيمية: (إن الأدلة العقلية الصريحة تُوافِق ما جاءتْ به الرسلُ، وإن صريح المعقول لا يناقض صحيحَ المنقول، وإنما يقع التناقض بين ما يدخل في السمع وليس منه، وما يدخل في العقل وليس منه) 13.
وأما رفضهم أن يكون هذا العقل مقيدا بعقل فلان أو علان فواضح؛ ومنه قول ابن القيم رحمه الله تعالى: (كل منهم يدعي أن صريح العقل معه وأن مخالفه قد خرج عن صريح العقل)، ثم بدأ يعدد أنواع العقول التي يدعى إليها فقال: (أعقلُ أرسطو.. أم فيثاغورس أم عقل الفارابي.. أم عقل النظام أم عقل الجبائي أم عقل بشر المريسي أم ترضون بعقل نصير الدين الطوسي..).
وهكذا يسقط السلفيون نظرية العقل المعياري ويثبتون نوعا آخر من العقل وهو العقل الفطري القرآني إن صح التعبير!

——————————
(1) يجدر بي هنا التنبيه على أن المقصود بالدليل الشرعي ما هو أعم من الدليل النصي؛ فإنه يدخل تحته أيضا الدليل العقلي الموجه بالوحي أيضا.
(2) الموقف المعاصر من المنهج السلفي في البلاد العربية 164و165
(3) مختصر الصواعق المرسلة1/293.
(4) الحجة في بيان المحجة 1/320.
(5) در تعارض العقل والنقل؛ 1/112/دار الكتب العلمية.
(6) السلفية؛ ص:31-32.
(7) شرح الأصفهانية؛ ص:97/مكتبة الرشد.
(8) ص:93/المكتب الإسلامي.
(9) التدمرية؛ ص:96.
(10) المرجع نفسه.
(11) اجتماع الجيوش الإسلامية ص:231.
(12) شرح الاصفهانية؛ ص:96.
(13) الدرء؛ ص:409.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *