الضرب على القفا لمن أنكر التأديب بالعصا (الجزء الأخير) ذة: لطيفة أسير

 

(6) ليس عيبا!!

قد تزلّ بك القدم أيها المعلم، فتتجاوز حدّ التأديب، وتبالغ في الزجر، فتتلفظ بما يليق، أو تتجاوز حدّ الضرب، فتُفسد حيث أردت أن تصلح، وتظلم حيث شئت أن تعدل، وتقضي بالحكم وأنت في حالة غضب وانتقام، حينها لا تتوانى في التراجع، وتصحيح المسار، وتقديم الاعتذار لطلابك، ولا يمنعنك كبْر ولا عُجب من ذلك، فإن الرجوع عن الخطأ فضيلة، والاعتذار للطالب الذي ظلمته يزيدك رفعة وقوة أمامه. ولعلي أذكر هنا بعض النماذج المشرفة لاعتذارات معلمينا الأفاضل للاستئناس.

* اعتذار سحنون لتلامذته بسبب شدته عليهم

ذكر أحمد خالد في تقديمه لكتاب القابسي حادثة جرت للشيخ سحنون مع تلميذه محمد بن معاوية ورفاقه كما رواها أبو بكر المالكي في كتابه “رياض النّفوس” حيث حضر محمد بن معاوية يوما  حلْقة من حلقات دروس الإمام سحنون التي كانت تُعقد أمام بيته في الشارع، وجلس في الطريق لضيق الموضع. وحكى ما جرى يومئذ ومن الغد:

فجاءه (أي لسحنون) حملُ طعام من البادية فنظر إليّ وقال لي: قُمْ من الطريق، فلم أقدر أن أقومَ، فقال: “قد جاءنا رزقٌ فمِن أين يدخل إذا قعدتم لنا في الطّريق؟” ثم تخطّاني وجاز، ثم نظر إلينا ثم قال: “قد نهيتُكم غيرَ مرّة من أن تقعدوا في الطريق” وضاق علينا… فلمّا كان من الغد خرج علينا وعلى يده الكتب للسّماع. فلمّا قعد في موضعٍ، أخذ الكتاب ليقرأ، فلما قرأ: “بسم الله الرحمان الرحيم” وضع الكتاب من يده، ثم تبسم قليلا، ثم قال: (كبُرنا وساءت أخلاقنا، ويعلم الله (أنّي) ما أصيحُ عليكم إلا لأؤدبكم، وما أريد بكم -يعلم الله- مكروها، إلا أنّا ابتُلينا عند الكِبَر ونحنُ أحوج ما كنّا إلى أنفسنا” كأنه يريد أن يعتذر عمّا ابتلي به من أمر القضاء. “وما أريد إلا لترعووا وتفقهوا وتعملوا بما سمعتم”.

*اعتذار الشيخ الطنطاوي لأحد طلابه

حدث للشيخ الطنطاوي في بداية عمله موقف مع أحد طلابه استدعى منه الاعتذار، فلبّى داعي الواجب ولم يستنكف عن الاعتراف بخطئه، وهذا ما كشفته عباراته التي سجلّها بكل أمانة في كتابه “ذكريات” وهو يقرّ بخطئه ويعتذر لطالبه قائلا: (أنا أعتذر إليك، لقد كنتُ أنا المخطئ وأنت المصيب، وأعتذر إليك مرّة أخرى لأنك كنت مهذّبا ولأنني لم أكن في التهذيب على ما يُطلب من العلماء، فسامحني)؛ وكان لهذا الموقف أعظم الأثر في نفوس الطلاب.

(7) الضرب في حياتهم!

من لطيف ما أحب أن أختم به هذه الرسالة المختصرة موقفين متباينين من التأديب بالضرب، أحدهما للدكتور يوسف القرضاوي، والآخر للكاتب والفيلسوف اليوناني كازاتتزاكس.

تحدث  الشيخ القرضاوي في مذكراته عن صورتين متباينتين لمعلميه، الأول كان منفّرا بسبب شدته واستبداده في استعمال سلطة الضرب، والآخر كان ليّنا ورحيما معه. فقال:

(وفي منطقتنا كان كتّاب الشيخ “يماني مراد”، وكتّاب الشيخ “حامد أبو زويل”. وقد ذهبت أول ما ذهبت إلى كتاب الشيخ يماني بإغراء من أحد أقاربنا الذي كان من تلاميذ هذا الكتاب. ولكني انتسبت إليه يوما واحدًا فقط، ولم أعد إليه بعد ذلك؛ وذلك لأن الشيخ يماني ضرب التلاميذ جميعا (لتنشيطهم) وكنت بالطبع من المضروبين. فعز عليّ أن أُضرب ظلما وبلا سبب، وفي أول قدومي، ورفضت أن أعود إلى هذا الكتاب مرة أخرى.)

وأضاف قائلا:

(ومن فضل الشيخ حامد علي أنه لم يضربني قط، رغم أنه كان يضرب كثيرا من أبناء الكتاب، وأنا في الحقيقة لا أحب أن أُضْرَب ويعز علي أن أُضرب. وأذكر أن الشيخ حامد مَدَّني مرة في (الفَلَكة) ليضربني، ولكن نجاني الله من الضرب. ولم يكن الضرب بسبب تقصير في واجبي الكُتَّابي اليومي، بل سبب آخر. فقد كانت أمي، ككثير من الأمهات والآباء الذين يخافون على أبنائهم من الغرق إذا ذهبوا للاستحمام في ترعة القرية، أو قنواتها الصغيرة، وخصوصا يوم الجمعة، فكان الشيخ حامد يُعَلِّم على أفخاذنا بالقلم (الكوبْيَة)، وفي يوم السبت يكشف علينا، فإذا وجد العلامة باقية فبها ونعمت، وإذا وجدها زالت، كان ذلك دليلا على أننا ذهبنا إلى الترعة.

وهذا ما حدث في هذه المرة واستحققت العقاب، ولكن قريبة لأمي كانت تسكن بجوار الكتاب، ومرت في ذلك الوقت وشفعت لي، فنجدتني من الضرب، ولا أدري هل كان مرورها مصادفة أو كان ذلك بتدبير حتى لا أضرب؟ يبدو أن الاحتمال الأخير هو الأقرب. وربما كان هذا التدبير من والدتي -رحمها الله- بالاتفاق مع الشيخ حامد) اهــ.

ومما أفدْتُه من أستاذي الأديب ربيع السملالي أنّ  كازاتتزاكس ذكر في سيرته الذاتية الفكرية (تقرير إلى غريكو ص:55) أنّه حين بلغ سن التعلم ذهب به والده إلى معلّم بَدَا له متوحشا في يده عصا طويلة!.. وقال والده: هذا ابني عظامه لنا واللّحم لك. لا تشفق عليه. اجلده واصنع منه رجلا!

فأجاب المعلِّمُ وهو يشير إلى عصاه: لا تقلق يا ميخائيل. هذه هي الأداة التي تصنعُ الرّجال!

(8) مسك الختام

إنّ من التلاميذ من تزجره الكلمة، ومنهم من تردعه النقطة، ومنهم من يستحي بالإشارة، ومنهم من ينضبط بمجرد النظرة.. لكن صدقا هناك فئة لا تزجرها غير العصا  ولا تخاف إلا من العصا، ولا تتحرك إلا بالعصا، ولا تكتب إلا بالعصا، ولا تسكت إلا بالعصا، لهذا لا يجب التخلي عن هذه الوسيلة الزجرية في مؤسساتنا التعليمية، فقط يجب استعمالها بطريقة شرعية تربوية تهذب ولا تؤذي. يعني أن يفقه المعلّم: متى يضرب، وكيف يضرب، ومن يضرب!!

فالضرب -كما قال الشيخ صالح المنجد-  ليس هو الأصل أبداً، ولا يلجأ إليه إلا عند استنفاد الوسائل الأخرى للتأديب، أو الحمل على الطاعات الواجبة… أما استعمال الضرب دون الحاجة فإنه اعتداء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم نصح امرأة أن لا تتزوج من رجل لأنه لا يضع العصا عن عاتقه أي ضراب النساء، أما من يرى عدم استخدام الضرب مطلقاً تقليداً لبعض نظريات الكفار في التربية، فرأيه خاطئ يخالف النصوص الشرعية.

وللّه درّ الشاعر  حين قال:

لا تحزنَنَّ على الصبيانِ إنْ ضُرِبُوا….فالضرب يبرا ويبقى العلمُ والأدبُ

الضـربُ يـنـفعـُـهُـم والعـلـمُ يرفعُهُم….لـولا المخافـة ما قـرأوا وما كتبوا

لـولا الـمُـعَـلِّـمُ كــان الـنـاسُ كـلُـهُـمُ… شـبـه البهـائـمِ لا عـلــمٌ ولا أدبُ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *