كثيرة هي الملهيات في هذه الأيام التي تشغل المؤمن عن اغتنام بعض الطاعات التي قد تشق عليه في أزمنة أخرى من السنة، ومن تلكم الطاعات الصيام. ولا يخفى ما للصيام من جزيل الثواب عند رب العباد وصحة الأنفس والأبدان، وقد وردت أحاديث كثيرة تحث المسلم على التقرب لله بشعيرة الصوم وتبشره بجزيل الثواب إن هو قام بذلك.
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: “كُلُّ عَمَلِ ابنِ آدْمَ له إلا الصيامَ فإنه لي، وأنا أجزي به، والصيام جُنَّةٌ، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يَرْفُثْ يومئذٍ ولا يَصْخَبْ، فإن سابَّه أحد أو قاتله فَلْيَقُل إني صائم والذي نفس محمد بيده لَخُلُوْفُ فَمِ الصائمِ أَطْيَبُ عند الله يوم القيامة من رِيحِ المِسْكِ. وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه”. رواه الشيخان واللفظ لمسلم.
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن في الجنة باباً يقال له الرَّيَّانُ يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون فيقومون، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد”. متفق عليه.
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “مَنْ صَامَ يَوْماً فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا” .
وللصيام أثر كبير على البدن بتطهيره من السموم وإعادة بنائه فالصيام يقوم مقام مشرط الجراح الذي يزيل الخلايا التالفة والضعيفة من الجسم، فالجوع الذي يفرضه الصيام على الإنسان يحرك الأجهزة الداخلية لجسمه لاستهلاك الخلايا الضعيفة لمواجهة ذلك الجوع، فتتاح للجسم فرصة ذهبية كي يسترد خلالها حيويته ونشاطه، كما أنه يستهلك أيضا الأعضاء المريضة ويجدد خلاياها، وكذلك يكون الصيام وقاية للجسم من كثيـر من الزيادات الضارة مثل الحصوة والرواسب الكلسية والزوائد اللحمية والأكياس الدهنية وكذلك الأورام في بداية تكونها.
ولما سبق من الفضل والخير لشعيرة الصيام كان حري بالمسلم اغتنام الفرص للقيام بها ومن تلكم الفرص فصل الشتاء الذي يقصر فيه زمن النهار فلا يشعر الصائم بشدة الجوع ويكون جوه رطبا فلا يشعر بالعطش غالبا، فتزول بذلك مشقة صيامه ويثبت الأجر بإذن الله.
وقد كان السلف يفرحون بحلول هذا الفصل ليغتنموا نهاره بالصيام وليله بالقيام، وقد ورد في ذلك آثار كثيرة نسوق بعضها رفعا للهمم وتحفيزا للخير:
عن عمر رضي الله عنه قال: “الشتاء غنيمة العابدين”. رواه أبو نعيم بإسناد صحيح.
قال ابن رجب: “إنّما كان الشتاء ربيع المؤمن لأنّه يرتع في بساتين الطاعات ويسرح في ميادين العبادات وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه”.
ومن كلام يحيى بن معاذ: “الليل طويل فلا تقصره بمنامك، والإسلام نقي فلا تدنسه بآثامك”.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنّه قال: “مرحبًا بالشتاء، تنزل فيه البركة ويطول فيه الليل للقيام ويقصر فيه النهار للصيام”.
ومن درر كلام الحسن البصري قال: “نعم زمان المؤمن الشتاء ليله طويل يقومه، ونهاره قصير يصومه”.
وعن عبيد بن عمير رحمه الله أنّه كان إذا جاء الشتاء قال: “يا أهل القرآن! طال ليلكم لقراءتكم فاقرؤوا، وقصر النهار لصيامكم فصوموا”.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة» رواه أحمد وحسنه الألباني.
قال الخطابي: “الغنيمة الباردة أي السهلة ولأنّ حرارة العطش لا تنال الصائم فيه”.
قال ابن رجب: “معنى أنّها غنيمة باردة أنّها حصلت بغير قتال ولا تعب ولا مشقة، فصاحبها يحوز هذه الغنيمة بغير كلفة”.
فحري بنا اقتناص هذه الغنيمة الباردة لاسيما في الأيام الفاضلة مثل الإثنين والخميس أو الأيام البيض ونحو ذلك واحتساب الأجر عند الله سبحانه وتعالى..