مقاصد الشريعة ومراعاة المآل في تنزيل الأحكام الشرعية(3) عبد الحفيظ حميش

سبق أن نشرت في العدد السابق مقالا بعنوان: تقصيد الأقوال والأعمال والسلوك وفق مقاصد الشريعة الإسلامية، وذلك أن كل حركات الإنسان وسكناته لا تخرج عن هذه الأمور الثلاث، لذلك أعود مرة أخرى لأستأنف الحديث في مقال آخر له ارتباط وثيق بالمواضيع السابقة، ألا وهو:

مقاصد الشريعة ومراعاة المآل في تنزيل الأحكام الشرعية

معلوم أن أفعال الإنسان وأقواله وسلوكاته يكون له تأثير في الحال أو المآل، وبالتالي فهي لا تخلو من أثر يترتب عليها في العاجل أو الآجل، لذلك تنبه علماؤنا قديما لهذا الأمر، خصوصا منهم فقهاء المالكية؛ حيث جعلوا قاعدة مراعاة المآل أصلا من أصول الشريعة الإسلامية، يبنون عليها أحكامهم الفقهية؛ وهي بدون شك تعتبر من أهم القواعد المقاصدية أيضا، وذلك لارتباطها الوثيق بقاعدة سد الذرائع.

يقول الدكتور محمد التاويل رحمه الله تعالى: “مراعاة مآلات الأمور ونتائجها وما يترتب عليها من مصالح ومفاسد عاجلة أو آجلة وعدم الوقوف مع الواقع وغض النظر عن النتائج وذلك بفضل اتخاذه (يقصد المذهب المالكي) قاعدة سد الذرائع وفتحها مبدأ وأصلا من أصوله التي بنى عليها فقهه ومذهبه وهي قاعدة من أنجع القواعد في محاربة الفساد الواقع والمتوقع الحاضر والمستقبل. وهي قاعدة إعطاء الوسائل حكم مقاصدها”([1]).

إن الشيخ محمد التأويل رحمه الله تعالى فصل وأجمل في حديثه عن مراعاة المآل لكون الرجل كان متشبعا بالفقه والأصول عموما، وفق المذهب المالكي خصوصا، لذلك يعتبر أصل مراعاة المآل من الخصائص التي تميز بها المذهب المالكي عن غيره من المذاهب الفقهية، حيث إن كل قول أو عمل يترتب عليه فساد أو يؤدي إلى محرم؛ فإن الفقه المالكي يمنعه ولا يجوزه.

والأمثلة عديدة أكثر من أن تحصى، مثل كراء الدار لمن يتخذها مأوى للدعارة والفساد، فحين ما تتأمل في أصل عقد الكراء  تجده موافقا للشريعة، لكن لما آل إلى فساد أو إفساد سار محرما وممنوعا في الفقه وفي الشريعة الإسلامية عموما.

وما أكثر الفساد اليوم؛ الذي يترتب عن مثل هذا النوع من الكراء للمنازل التي أصبحت مأوى للدعارة والمخدرات، إنها ظاهرة أصبحت تنتشر بشكل خطير تضرب المجتمع الإسلامي في العمق وفي الصميم، من حيث نشر الأخلاق الذميمة والقيم الغربية المنحرفة.

إن مراعاة المآل تفطن له العلماء قديما وحديثا، وذلك نظرا لما يترتب عليه من الأحكام الفقهية، فهذا الإمام الشاطبي عاش في القرن الثامن الهجري (ت790) يقول: النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة. وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادة بالإقدام أو الإحجام؛ إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، مشروعا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصده فيه؛ وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك“([2])

تحدث الإمام الشاطبي عن قاعدة مراعاة المآل بإسهاب في كتابه الموسوم ب:”الموافقات في أصول الشريعة” وذلك باعتباره مالكي المذهب، حيث إن هذا الرجل كان يتميز بقدرة فائقة على النظر في مآلات الأقوال والأفعال، والمتأمل في النص السابق يظهر له ذلك بوضوح وجلاء، ومن خلال هذه القاعدة ينبغي لمخاطب الناس سواء كان فقيها أو مدرسا أو غير ذلك أن يضع هذه القاعدة في الحسبان؛ وأن يجعلها نصب عينيه، حتى لا يحدث ما لم يكن يتوخاه أو ما لم يكن يتوقعه أن يحدث، كل ذلك مراعاة لأحوال الناس وواقعهم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وغير ذلك.

إن كثيرا من المأساة التي تتخبط فيها الأمة اليوم؛ وفي غالبها الأعم، مردها إلى الجهل بالفقه وبأحكامه وعدم التفطن لمراعاة المآل في الأقوال والأعمال؛ خصوصا في مجال الدين والتدين، حيث أصبح هذا المجال مرتعا لكل من هب ودب، خصوصا حين ما نرى بعض الناس يتصدون للوعظ والإرشاد في المجالس والمناسبات وهم لا يتقنون حتى فرائض الوضوء؛ ناهيك عن أحكام الصلاة وغيرها، أو مراعاة حال الناس وواقعهم؛ ومستوى عقولهم.

فتجد البعض يحدث بكل ما يسمع وبكل ما يحفظ من الآيات والأحاديث ثم تجده يشرحها ويفسرها بما يمليه عليه عقله وهواه، لا بما فسر ذلك العلماء، ثم في الغالب الأعم تكون النتيجة المترتبة عن ذلك خطيرة ومنعكسة؛ يضل ذلك الإنسان نفسه ويضل معه غيره كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري عن عروة قال: “حج علينا عبد الله بن عمرو فسمعته يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعا، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم، فيضلون ويضلون”([3]).

ما أكثر الجهال اليوم الذين يفتون في الدين بغير علم، ويقولون على الله ما لا يعلمون، ويحدثون الناس بما لا يفهمون، وبالتالي: النتائج واضحة للعيان في الواقع، إما غلو وتشدد ينتج عن سوء فهم للدين والتدين، وإما انحراف وتزندق؛ يفرزه الجهل بالدين والابتعاد عنه؛ وعدم معرفة أحكامه الصحيحة المبنية على أصول الاستنباط الصحيح؛ خصوصا منهج العلماء والفقهاء، يقول الإمام علي رضي الله عنه: “حدثوا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله ورسوله“([4]).

من خلال ما سبق ينبغي لكل من يمارس الوعظ والإرشاد أو الدعوة إلى الله عموما؛ أن يلم ببعض العلوم بعد الإلمام بالعلوم الشرعية أصالة، أن يطلع على علم النفس وعلم الاجتماع تبعا، ولو على الضروري منه، حيث تساعد هذه العلوم كثيرا الداعية إلى الله؛ في كيفية مخاطبة الناس ومراعاة أحوالهم الاجتماعية والثقافية وغيرها…

ومجمل الكلام إن كل خطاب أو فعل ينتج عنه أثر إيجابي أو سلبي ويكون له حكم في الشريعة الإسلامية وفق مقاصدها السمحة، وذلك إما بالجواز أو المنع، حسب النظر إلى المصالح التي تستجلب أو المفاسد التي تدفع.

————————————–
[1]   محمد التاويل، خصائص المذهب المالكي، مطبعة آنفو برانت الليدو فاس، 2014م ص: 130.
[2]  _ الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق عبد الله دراز، دار الحديث القاهرة، (د ط)1427ه/2010م ص: 140-141.
[3] _ أخرجه الإمام البخاري في الصحيح، كتاب الاعتصام، باب ذم الرأي وتكلف القياس
[4] – الإمام البخاري الجامع الصحيح، باب من خص بالعلم قوم دون قوم، تحقيق ديب البغا، دار ابن كثير اليمامة،-بيروت، ط3، 1407هـ/1987م. رقم الحديث،124.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *