من هدي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الكلام    عمر خويا

 

هذا المقال تتمّة للذي سبقه وإن اختلف عنه قليلا في فحواه، وهو في ما يميّز كلامَ أفضل من نطق بلغة الضّاد فطرب الكثيرون لفصاحته وسهولة لفظه وقوّة معانيه، لأنّ لفظه صلّى الله عليه وسلّم دون لفظ القرآن الكريم لكنّهما وحي جاء بقصد الفهم والامتثال، وهو بالطّبع له ما يميّزه ويُعلي من مقامه فوق كلام النّاس وألفاظهم، من ذلك بإيجاز:

أولاالبعد عن التّكلّف:

كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم أفصح العرب، وكيف لا يكون كذلك وهو لا ينطق عن الهوى بتأييد من الله سبحانه، وهو مكلّف بالتّبليغ وحسن البيان لأجل الإفهام، وشهد له بذلك الجاحظ، وهو من أئمّة الأدب العربيّ، لمّا وصف حديثه عليه الصّلاة والسّلام بقوله: «وهو الكلام الّذي قلّ عدد حروفه وكثُر عدد معانيه، وجلّ عن الصّنعة وبعُد عن التكلّف. وكان كما قال الله تبارك وتعالى قل يا محمد: « وَمَا أَنَا مِنَ ٱلْمُتَكَلِّفِينَ »( سورة ص 84). وكيف وقد عاب التّشديق وجانب أصحاب التّقعيب (التّكلّم بأقصى الحلق مع فتح الفم)، واستَعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر، وهجَر الغريب الوحشيّ، ورَغِب عن الهجين السُّوقيّ، فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلّم إلا بكلام قد حفّ بالعصمة، وشيّد بالتأييد ويسّر بالتوفيق وهو الكلام الذي ألقى اللهُ عليه المحبّة وغشّاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة وبين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام، مع استغنائه عن إعادته وقلة حاجة السامع إلى مُعاودته. لم تسقط له كلمة ولا زلَّت به قدَم، ولا بارت له حُجة ولم يَقم له خصم ولا أفحمه خطيب، بل يبذّ الخُطب الطّوال بالكلام القصار، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتجّ إلا بالصدق ولا يطلب الفلج (غلبة الخصم) إلا بالحقّ، ولا يستعين بالخلابة ولا يَستعمل المُواربة، ولا يَهمز ولا يلمز، ولا يُبطئ ولا يَعجل، ولا يُسهب ولا يحصر. ثمّ لم يسمع النّاس كلاما قطّ أعمّ نفعا، ولا أقصد لفظا، ولا أعدل وزنا، ولا أجمل مذهبا، ولا أكرم مطلبا، ولا أحسن موقعا، ولا أسهل مخرجا، ولا أفصح عن معنى، ولا أبين عن فحوى من كلامه صلى الله عليه وسلم كثيرا»[1].

وقال عنه مصطفى صادق الرّافعي: « فهو كلام كلما زدته فكرا زادك معنى، قريب كالرّوح في جسمها البشريّ، ولكنّه بعيد كالرّوح في سرّها الإلهي، فهو معك على قدر ما أنت معه»[2].

ثانياالتأثر بألفاظ القرآن ومعانيه:

كان خُلُق النُبيُ صلُى الله عليه وسلم القرآن، وكان كلامه من خُلقه أشدّ تأثرا بالقرآن؛ فهو يخرج من

يخرج من مشكاة الوحي« وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى »(النّجم:3-4)، والمتلقي للوحي بشقّيه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، واحد هو النّبيّ صلّى الله عليه وسلم. لذلك لا ضير أن يكون التأثّر واضحا في الأسلوب والمعنى، إلى درجة أنّ القرآن يلقي بظلاله على كلامه، في مثل قوله عليه الصلاة والسلام: «إن الدّنيا حلوة خضرة، وإنّ الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتّقوا الدّنيا واتّقوا النّساء فإنّ أوّل فتنة بني إسرائيل كانت في النّساء»[3] وغيره من حديثه كثير.

ثالثاالإبداع:

فحديث النبي صلى الله عليه وسلم يتضمّن ألفاظا وتعابير غير معهودة عند العرب ولا كانت من ابتكارهم، وهي من حيث البيان وقوّة الدّلالة في أرفع مقام من كلام البشر؛ من ذلك ما ثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: « ليس الخبر كالمعاينة»[4]، فهذا التّعبير لم تكن العرب تعرفه من قبل، كذلك لفظ “المخِيلة” في قوله عليه الصّلاة والسّلام: «من جرّ إزاره لا يريد بذلك إلاّ المخيلة، فإنّ الله لا ينظر إليه يوم القيامة»[5].

وكلّ هذه الصّفات وغيرها، تحيلنا على أهمّية الانتباه إلى مصطلحات الحديث النّبويّ في ذاتها وفي سياقات ورودها، فهي لا تقلّ أهمية عن مصطلحات القرآن المجيد، ولا تشذّ عنها في كونها موضوع الدّراسات العلمية للمصطلحات الشّرعية، لأجل بيان ما تدلّ عليه من معان تعضّد معاني ألفظ القرآن، وكشف ما تنطوي عليه من قضايا وما تكتنزه من إشكالات، هذا في حال التّحقّق من كونها من كلام النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، لأنّ رواية الحديث بالمعنى، بالرّغم من فوائده الظّاهرة، قد أثار شبهة كون اللّفظ من وضع الرّواة في عدد من نصوص الحديث الشّريف.

[1]– البيان والتّبيين، الجاحظ، شرح وتحقيق عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط7،  1418ﻫ -1998م. 2/16-18 .     

[2] – وحي القلم، مصطفى صادق الرّافعي، راجعه واعتنى به: د. درويش الجويدي، المكتبة العصرية،  صيدا، بيروت، ط 2002م. 3/8.

[3] صحيح مسلم، تحقيق محمّد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت (د ت)، كتاب الرّقاق، باب أكثر أهل الجنّة الفقراء وأكثر أهل النّار النّساء وبيان الفتنة بالنّساء، رقم الحديث: 2742. 4/2098.

[4] مسند أحمد بن حنبل، تحقيق شعيب الأرنؤوط وعادل مرشد وآخرون، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1421– 2001م. مسند عبد الله بن عباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، رقم الحديث: 1842.  3/341. 

[5] صحيح مسلم، كتاب اللّباس والزّينة، باب تحريم جرّ الثّوب خيلاء وبيان ما يجوز إرخاؤه إليه وما يستحبّ، رقم الحديث: 2085. 3/1652.                                                                             

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *