أولا: نقد موقف ابن رشد من السنة النبوية:
والحديث الخامس موضوعه الرؤيا والأحلام، فعندما تعرّض ابن رشد لهذا الموضوع، وذكر أن منه الإنذار الشريف، والإدراك الروحاني، قال: (و لذلك قيل: إنه جزء من كذا من كذا من النبوة). فقوله هذا خطأ فاحش، فلا يصح ذكره بهذه الصيغة التي نسبت القول إلى مجهول، وأوردته بصيغة التمريض والتشكيك. لأن القول الذي ذكره هو معنى لحديث نبوي شريف صحيح، رواه البخاري ومسلم، ونصه: (رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة…). فعمله هذا هو تصرّف غريب جدا، فكان عليه أن يُشير بتأكيد ودقة إلى أن ذلك هو حديث نبوي شريف صحيح، ولا ندري سبب ذلك، أهو سهو ونسيان، أم هو أمر آخر؟!.
وأما الحديث السادس -أي الأخير- فهو قوله -عليه الصلاة والسلام-: (ستفترق أمتي على اثنتين وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة). هذا الحديث ذكره ابن رشد في كتابه الكشف عن مناهج الأدلة. وهو حديث صحيح أورده ابن رشد ناقصا، فلم يذكر في آخره (وهي الجماعة). ثم عقّب ابن رشد على الحديث الناقص بقوله: (يعني بالواحدة التي سلكت ظاهر الشرع، ولم تُؤوّله تأويلا صرّحت به للناس).
وتعقيبا عليه أقول: أولا إنه واضح من تعليقه أنه يرى أن الفرقة الناجية التي استثناها الحديث هي التي تُمارس التأويل الباطني الرشدي ولا تُظهره للجمهور، فتُخفيه عنهم وتُظهر لهم ظاهر الشرع الذي هو خلاف التأويل. وتفسيره هذا لا يصح، لأنه تأويل ذاتي مذهبي لا دليل عليه من الحديث نفسه، ولا من نصوص شرعية أخرى، لأن الحديث واضح أنه يقصد جماعة المسلمين التي كانت على منهاج الصحابة والسلف الصالح، ولا يقصد فلاسفة العصر الإسلامي الذين ظهروا متأخرين، ويُحرفون النصوص ويُخفونها عن جمهور المسلمين، وزعمه هذا لا يُشير إليه النص من قريب ولا من بعيد، وإنما هجم عليه وأخضعه لتأويله الباطني، وقوّله ما لم يقله. وطريقته هذه ليست من الموضوعية والنزاهة العلمية في شيء، مهّد بها لكل فرقة أن تقول بأنها هي الفرقة الناجية التي قصدها الحديث دون غيرها، وبذلك أصبح الشرع نهبا لكل مُحرّف يفهمه كما يُريد، وحسب مصالحه وأهوائه وظنونه من دون أية مراعاة لمبادئ الفهم الصحيح للشرع. فابن رشد لم يفهم الحديث بالعلم، وإنما فهمه بمذهبيته الأرسطية التأويلية التحريفية المتعصبة.
وثانيا إن مما يدل على خطأ ما ذهب إليه ابن رشد، وأن الحديث يقصد جماعة المسلمين التي هي أهل السنة والجماعة من الصحابة والسلف الصالح ومن سار على نهجهم، أن الحديث وصف الفرقة الناجية بأنها الجماعة، وابن رشد لم يذكر هذه اللفظة، فلا ندري أنسيها أم تناساها؟. وهذه الجماعة هي التي على منهاج النبوة والصحابة ومن سار على طريقتهم، بدليل أن الله تعالى زكى الصحابة وشهد لهم بالإيمان والعمل الصالح، ووعدهم بالنصر والتمكين الديني والدنيوي معا في قوله تعالى: “وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون” سورة النور 55 وهذا كله تحقق على أيديهم في الواقع التاريخي. فالفرقة الناجية هي التي كانت على منهاج الصحابة والتابعين لهم بإحسان بدليل الآية السابقة، والآية الآتية التي تقول: “والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم” سورة التوبة : 100، فأهل السنة هم الفرقة الناجية، وليست جماعة الفلاسفة المشائين ولا غيرهم من الفرق الإسلامية الأخرى. ومما يزيد ما قلناه تأكيدا أن الحديث نفسه ورد بطريق آخر بإسناد حسن فيه تحديد ووصف للفرقة الناجية، و صفها النبي-عليه الصلاة والسلام- بأنها هي (التي على ما أنا عليه و أصحابي).