قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَٰهِيمَ مَكَانَ اَ۬لْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَئْاٗۖ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَآئِمِينَ وَالرُّكَّعِ اِ۬لسُّجُودِۖ ﴾ [الحج:26].
في هذه الآية يأمر الله ـ الخليل إبراهيم عليه السلام بتطهير بيته من كل شرك ومعصية ونجس واستفاد منها جمع من العلماء الأمر بتطهير كل بيوت الله ﻷ.
وقال تعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا اَ۬لْبَيْتَ مَثَابَةٗ لِّلنَّاسِ وَأَمْناٗ وَاتَّخَذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَٰهِيمَ مُصَلّيٗۖ وَعَهِدْنَآ إِلَيٰٓ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْعَٰكِفِينَ وَالرُّكَّعِ اِ۬لسُّجُودِۖ ﴾ [البقرة:124].
قال ابن كثير: “وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الآية، ومن قوله تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ اَذِنَ اَ۬للَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اَ۪سْمُهُۥ يُسَبِّحُ لَهُۥ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالَاصَالِ﴾ ومن السنة من أحاديث كثيرة، من الأمر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك، من صيانتها من الأذى والنجاسات وما أشبه ذلك”([1]).
وعَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها، قَالَتْ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ وَأَنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ» ([2])
قال البغوي: في شرح السنة:” يُرِيدُ الْمَحَالَّ الَّتِي فِيهَا الدُّورُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:﴿سَأُوْرِيكُمْ دَارَ اَ۬لْفَٰسِقِينَۖ ﴾” [الْأَعْرَاف: 145] ([3]).
قال ابن حزم: “وَالتَّنْظِيفُ وَالتَّطْيِيبُ: يُوجِبَانِ إبْعَادَ كُلِّ مُحَرَّمٍ، وَكُلِّ قَذِرٍ، وَكُلِّ قُمَامَةٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ إذْهَابِ عَيْنِ الْبَوْلِ وَغَيْرِهِ”([4]).
فعلى المسلمين أن يسعوا في تطهير المساجد وكنسها وتنظيفها… قال الزركشي: “يستحب استحبابًا متأكدًا كَنْسُ المسجد وتنظيفه”([5]).
وإذا كانت البيوت والمكاتب والمتاجر والإدارات تُتَعاهد بالكنس والتنظيف بشكل يومي، وتنظف تنظيفا كليا فينة بعد فينة بحسب الحاجة فبيوت الله ﻷ أولى بذلك.
وعَن أَنَسِ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ: مَهْ مَهْ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَا تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ» فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: «إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ، وَلَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللهِ ﻷ، وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ» أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَالَ: فَأَمَرَ رَجُلًا مِنَ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ([6]).
في هذا الحديث: وجوب تنزيه المسجد عن النجاسات والأقذار، ويؤخذ منه تنزيه المسجد ندبًا عن البصاق، والنخامة، وأوساخ البدن الطاهرة([7]).
ومن هذا المنطلق كان السلف رحمهم الله يعظمون المساجد، ويسعون في نقائها ونظافتها وطهارتها ولا يتركون فيها أدنى شيء مما يناقض ذلك.
روى الخطيب البغدادي عن علي بن محمد بن منصور، قال: سمعت أبي يقول: كنا في مجلس أبي عبد الله محمد بن إسماعيل –أي البخاري- فرفع إنسان من لحيته قذاة فطرحها على الأرض، قَالَ: فرأيت محمد بن إسماعيل ينظر إليها وإلى الناس، فلما غفل الناس رأيته مد يده فرفع القذاة من الأرض فأدخلها في كمه، فلما خرج من المسجد رأيته أخرجها فطرحها على الأرض([8]).
فهكذا كان أئمة الإسلام يعظمون بيوت الله تعالى، ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: “المسْجِدَ يُصَانُ حَتَّى عَنْ الْقَذَاةِ الَّتِي تَقَعُ فِي الْعَيْنِ”([9]).
نهى النبي ﷺ عن البصاق في المسجد واعتبرها خطيئة لا تكفر إلا بالدفن.
عن أَنَسِ بْنَ مَالِكٍ ا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «البُزَاقُ فِي المَسْجِدِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا»([10]).
وقد حمل أهل العلم هذا الأمر النبوي بالدفن فيما إذا كان المسجد غير مفروش،
قال الشيخ الدكتور ابن جبرين: “وقد علم أن المسجد إذا كان مبنيًا من الطين، فحكه يسير، وأن الأرض ترابية يمكن دفن ما يقع فيها، أو إخراج ترابه المستقذر، وحيث إن المساجد في هذه الأزمنة قد أصبحت مبلطة، ومفروشة في الغالب بفرش نظيفة، تتأثر بالوسخ والقذر، ويظهر فيها أثر النخامة والدم والصديد ونحو ذلك، تعين المنع من البصاق فيها على الأرض مطلقا، سواء على الفرش أو في الحيطان، أو على البلاط فمن بدره البصاق أو نخام فعليه أن يخرج لذلك، أو يبصق في منديل ويخرجه، أو في طرف ثوبه ويرد بعضه على بعض كما ذكر في الحديث، حتى يبقى المسجد نظيفًا طيبًا”([11]).
وعن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ رَأَى بُصَاقًا فِي جِدَارِ الْقِبْلَةِ فَحَكَّهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلَا يَبْصُقْ قِبَلَ وَجْهِهِ، فَإِنَّ اللهَ قِبَلَ وَجْهِهِ إِذَا صَلَّى»([12]).
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَأَى نُخَامَةً فِي القِبْلَةِ، فَحَكَّهَا بِيَدِهِ وَرُئِيَ مِنْهُ كَرَاهِيَةٌ، أَوْ رُئِيَ كَرَاهِيَتُهُ لِذَلِكَ وَشِدَّتُهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلَاتِهِ، فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ أَوْ رَبُّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِبْلَتِهِ، فَلَا يَبْزُقَنَّ فِي قِبْلَتِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ»، ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ، فَبَزَقَ فِيهِ وَرَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، قَالَ: «أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا»([13]).
قال ابن عبد البر: “أَمَّا حَكُّهُ ﷺ الْبُصَاقَ مِنَ الْقِبْلَةِ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَنْزِيهِ المساجد من كل ما يستقدر وَيُسْتَسْمَجُ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا لِأَنَّ الْبُصَاقَ طَاهِرٌ وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَأَمَرَ بِغَسْلِ أَثَرِهِ”([14]).
فالحاصل أنه المناسب في زماننا مع فرش المساجد وتبليطها النهي عن البصاق والتفل والنخامة في كل أرجاء المسجد إلا أن يفعل المصلي ذلك في منديل ورقي أو ثوب أو كم، تنزيها لبيوت الله عما لا يستساغ ولا يقبل في سائر البيوت.
(يتبع)
———————————————————————————-
([1]) تفسير القرآن العظيم (1/421).
([2]) رواه أبو داود (455)، والترمذي (594)، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (1724):”إسناده صحيح على شرط الشيخين”.
([7]) تطريز رياض الصالحين )ص:954(.
([9]) مجموع الفتاوى (22/202) والفتاوى الكبرى (1/273).
([10]) رواه البخاري (415)، ومسلم (552).
([11]) فصول تتعلق بالمساجد )ص:31(