وكتركيز منا لمزيد من التوضيحات على شخص الجنيد الصوفي الحقيقي الذي نجزم أن عموم المغاربة على جهل به. إن لم تكن الأقلية القليلة هي وحدها التي عرفته. لكنها دأبت على إخفاء ما أصر هو نفسه على إخفائه اقتداء به أو تقليدا له، نسوق ما يلي:
1- ظلت مجموعة من رسائل الجنيد مكتومة طوال قرون عن طلاب العلم والمعرفة. فهل كتمها أصحابه دون إذن منه؟ أم إنهم كتموها تنفيذا لأمره الصريح الذي لم تسعهم مخالفته.
2- هل أمر بعدم الترويج لها نظرا لمحتوياتها التي يصعب على العامة فهمها وقبولها، ومن ثمة يصنفونها ضمن جملة المبتدعات المنافية للدين الحق. وربما أدت معاداتهم لصاحبها إلى حد المطالبة برأسه في أسوأ حال. أو إلى حد نبذه واحتقاره في أحسنه؟
والعامة لدى الصوفية المتنطعين لا تعني الدهماء الغارقة وحدها في الأمية. وإنما تعني كذلك أهل الظاهر من العلماء والفقهاء الذين لا يسلمون بالتمييز بين الشريعة والحقيقة، مما أدى بأحد الصوفية في حالة مثل حالة الغزالي إلى تعرض كتابه “إحياء علوم الدين” في المغرب والأندلس للإحراق. وكان في مقدمة متزعمي إحراقه العلامة المتسنن: القاضي عياض السبتي الذي وصل إلى حد تكفير صاحبه في مؤلفه القيم: “الشفا بتعريف حقوق المصطفى”!
وها هنا نكتة فات أجيال ما بعد عياض حتى الآن الانتباه إليها، إنها التفرقة المقصودة من طرفه في ظرف تاريخي صعب، بين طريقتين للوصول بتهذيب النفوس إلى مستوى عال من الكمال الديني والأخلاقي: طريقة يدافع عنها الصوفيون كالغزالي ومن سبقه ومن جاء بعده.
وهذه في تقدير عياض وفي تقديرنا نحن كمقتنعين بما به اقتنع، تبعد معتمديها في التدين عن جادة الصواب التي هي هنا: سبيل الله المستقيم، وطريقة يلخصها عنوان كتاب عياض المذكور قبله. فشفاء النفوس وتهذيبها وتقويمها وصقلها لا يتم بمنهج صوفي مبتدع مبتكر! إنما يتم -كما قال- بـ”تعريف حقوق المصطفى”! والمدخل المأمون والسليم إلى تعريفها هو الإيمان العميق الصادق بأن أية طريقة في التعبد محدثة، بعيدة عن سنة المختار، لا يمكن أن تؤدي بتاتا إلى الحصول على محبته سبحانه.
فتعريف حقوق المصطفى المتمثل في الاقتداء به من خلال استحضار واعتماد وفهم كل ما صح وروده عنه، هو وحده دواء ناجع لما في الصدور، وإلا فإنه لا طبيب للنفوس المتعبة انطلاقا من الدين أعلم بآفاتها وأمراضها ودوائها من سيد المرسلين وخاتم النبيئين.
3- لماذا يحرص الجنيد على التحدث إلى أصحابه في جلسات مقفولة؟
والجلسات المقفولة هنا تعني ما يجري وراء الأبواب الموصدة؟ وهذا التصرف منه يمكننا من استنتاج شيئين: ما يسيء إلى الدين. وما لا يرضي المدعين بأنهم من أتباع صاحبه.
ثم نتساءل: هل المتصوفة علماء؟ وهل الجنيد بالذات عالم؟ مع التأكيد على أن العالم صفة للمتنور الذي له إلمام بأكثر من موضوع معرفي: إنه فقيه، ومفسر، ومحدث، إلى آخره. نجد في “باب الحث على طلب العلم” عند أبي داود في سننه عن أبي الدرداء راويا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: “من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما (وإنما) ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر”.
واحد من أمرين: إما أن يكون المتصوفة كمشايخ وكبعض مريديهم كلهم علماء، والجنيد واحد من هؤلاء، فيصح وصفهم حينها بورثة الأنبياء، وإما أنهم ليسوا علماء جملة وتفصيلا؟
فلنفترض الاحتمال الأول من باب حسن الظن بالمؤمنين. ولنستبعد الاحتمال الثاني، ونحن نستحضر في أذهاننا هذه المقولة “الله تعالى لا يعبد بجهل أو عن جهل”؟ فما الذي نصل إليه؟
الوريث لا يرث الموروث بلحمه وعظمه وشحمه، وإنما يرث ما خلفه وراءه بعد وفاته من أملاك قد تكون ثابتة ومنقولة، وقد تكون هذه أو تلك. بحيث يصبح من حقه أن يتصرف بحرية فيما ورثه. لكن الأمر بخصوص الموروث عن الأنبياء يختلف.
قال صلى الله عليه وسلم: “لا نورث ما تركنا فهو صدقة”. فنكون ملزمين باستبعاد كون الموروث عن المختار من المتاع الدنيوي الزائل. فيبقى الموروث عنه متضمنا في قوله عز وجل: “وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ”. وفي قوله تعالى -والخطاب موجه إلى نبيه-: “قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ”. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد”. والإحداث هنا يغطي كلا من المجال النظري ومن المجال التطبيقي.
فهل يملك بعدها أحد المتصوفة حق الزيادة في الدين أو النقص منه، والمختار قد حذر من العمليتين كلتيهما بنصوص غير النص الذي قدمناه للتو؟
إن كان العلماء ورثة الأنبياء، فمسؤوليتهم فيما ورثوه عنهم مقيدة محددة منصوص عليها في أكثر من سورة وفي أكثر من حديث. إنهم مسؤولون عن حفظ الدين وشرحه أو بيانه، والدفاع عنه، والدعوة إليه، والسهر على تطبيقه، والمساهمة المباشرة في الإبقاء على مجتمع مسلم متماسك، حيث تسود بين كافة مكوناته الحرية والمساواة والأخوة، والمحبة والعدالة والرخاء، والأمن والأمان والاستقرار والاحترام المتبادل.
ويدخل في إطار حفظ الدين دفاع العلماء عن سنة من نزل عليه. فما صح عنه من أقوال لا يصح تجاوزه للعمل بما نسب إلى غيره، أيا كان هذا الغير. وما صح عنه من أفعال، لا يصح تجاوزه إلى ممارسة أخرى في التدين منسوبة إلى من سواه.
أما أن يصل الأمر ببعض الزهاد، أو ببعض الصوفية لاحقا، إلى إخفاء قناعاتهم الدينية على إخوتهم في العقيدة، بحجة أنهم غير مؤهلين لمعرفتها من ناحية. وبحجة أنها تتجاوز مستواهم الذهني من ناحية ثانية. وبحجة أنها تشكل خطرا عليهم في دينهم من ناحية ثالثة. وبحجة أنهم كواضعيها أو كمكتشفيها (= من باب الكشف الصوفي) سوف يتعرضون إلى أخطار قد تقودهم إلى الموت غيلة من ناحية رابعة! فادعاءات تخفي وراءها إساءة إلى الدين واستصغارا للمؤمنين عن سبق إصرار! وتحدث بالتالي شرخا في صفوف المسلمين بانتقاء نخبة الأولياء العارفين الذين لا تجاريهم أي نخبة أخرى في توحيد الله كما ينبغي أن يوحد. مما يدل دلالة قاطعة على أن توحيد كافة المؤمنين توحيد ناقص أو خاطئ!
فقد ميز الغزالي -كامتداد للجنيد ومن تبعه- في التوحيد بين أربعة مراتب:
“الأولى: أن يقول الإنسان بلسانه: لا إله إلا الله، وقلبه غافل عنه أو منكر له كتوحيد المنافقين.
والثانية: أن يصدق بمعنى اللفظ قلبه، كما صدق به عموم المسلمين، وهو اعتقاد العوام! (يتقدمهم الرسول والصحابة وكبار العلماء والفقهاء والمحدثين!!!)
والثالثة: أن يشاهد ذلك بطريق الكشف (= استبعاد العقل) بواسطة نور الحق وهو مقام المقربين. (= توحيدهم!!!). وذلك بأن يرى أشياء كثيرة، ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار (= عود إلى توحيد العوام!!!).
والرابعة: أن لا يرى في الوجود إلا واحدا. (كيف يتم له ذلك؟) وهي مشاهدة الصديقين. (= وداعا للإدراك الحسي والإدراك العقلي. وأهلا بالتوحيد كما هو عند أبي بكر المدعو بالصديق!!!). وتسميه الصوفية الفناء في التوحيد، لأنه من حيث لا يرى إلا واحدا، فلا يرى نفسه أيضا. (من هذا الذي لا يرى حتى نفسه؟). وإذا لم ير نفسه لكونه مستغرقا بالتوحيد، كان فانيا عن نفسه في توحيده. بمعنى أنه فني عن رؤية نفسه والخلق”!!!
ومن وصل إلى هذه المرتبة الرابعة من التوحيد صار إلى العدم. إنه غير موجود! إنه فان! وغيره من المخلوقات حوله غير موجودة. إنه لا يراها، حتى الرسول نفسه غير موجود باعتماد السياق الذي يلغي كل موجود في العالم! وغير واحد عندها -نقصد كافة المخلوقات- هل هو عابد أو معبود؟ أو هو معبود لأنه الموجود الوحيد؟
لكن العابد بفنائه في معبوده الوحيد الذي توحد به، لم يكن هناك من مبرر لعبادته! لأنه لا يمكن للواحد أن يعبد نفسه! وهذه قناعة الإباحيين من المتصوفة الذين ربطوا العبادة بوجود عابد ومعبود! وبما أن واحدا منهما هو الموجود وحده، وأن الثاني فني في الواحد الموجود الذي لا وجود لغيره في الوجود بالرغم من الكثرة التي يدركها العقلاء، مما يؤدي -تطبيقيا بهذا المنطق الأهوج- إلى إلغاء العبادات في الجملة، وبالتالي إلى إلغاء المسؤولية والجزاء! والوعد والوعيد! والجنة والنار! وإلا فهل يسأل من لا وجود له؟ أم إن الأمر يتعلق بمساءلة أصحاب المرتبة الأولى وحدهم في التوحيد؟ بينما يعفى أصحاب المرتبة الرابعة منها لأنهم اندمجوا في الربوبية وفي الألوهية ودابوا وفنوا فيها إلى حد أنهم في الله أو به اتحدوا واتصفوا بنفس صفاته!!!
يقول أبو الحسن الشاذلي سالكا نفس مسلك الجنيد والغزالي: “إننا لننظر إلى الله ببصائر الإيمان والإيقان. فأغنانا ذلك عن الدليل والبرهان (= وداعا للعقل مرة أخرى؟؟؟). وإنا لا نرى أحدا من الخلق (!!!). هل في الوجود أحد سوى الله الملك الحق؟ وإن كان ولا بد فكالهباء في الهواء، إن فتشته لم تجد شيئا”!!!