لقد تكلم كثير من الناس عن نظام الحكم (الديمقراطي) وعن موقف الإسلام منه، وغرضي في هذا المقال المختصر البحث في لفظ “الديمقراطية”، بغض النظر عن تفاصيل نظام الحكم فيها. فأقول وبالله التوفيق:
من المعلوم أن الإسلام اعتنى بإصلاح الألفاظ، واهتم بـ”سلامة المباني والمعاني” ، “صيانة للتوحيد، وحماية لحماه، وحفظا للدين والعرض والشرف، وعمارة للتعايش بين العباد” .
وما ذلك إلا لأن الألفاظ قوالب للمعاني، ويدخل بسبببها على الدين فساد عظيم، وينتج عنها ضلال مبين، وهل كان سبب أول معصية صدرت من البشرية إلا بسبب التلاعب بالألفاظ؟!
فإنما توصل إبليس إلى حمل آدم على الأكل من الشجرة عن طريق تزيين الباطل، “قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لّا يَبْلَى”، فسماها “شجرة الخلد”، وإنما هي شجرة الخروج من الجنة.
ولا يزال الشيطان وجنوده من الإنس والجن يضلون الناس عن طريق الألفاظ المضللة، تزيينا للباطل بتحسين القبيح تارة، وتنفيرا من الحق بتقبيح الحسن تارة أخرى.
ولذلك فقد نهى الشرع عن كثير من الألفاظ “لذاتها أو لمتعلقاتها أو لمعنى من ورائها” ، ومن ذلك ألفاظ تقدح في الاعتقاد، أو تخل بالأدب مع الله تعالى أو كتابه أو رسوله.
فمما يخل بالأدب مع الله تعالى مثلا: “سب الدهر”، فقد نهانا الله تعالى عنه فقال في الحديث القدسي: “يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ، يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الأَمْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ” (متفق عليه).
فدل الحديث بأن ابن آدم إذا أصابته مصيبة فسب الدهر، فإنه يؤذي الله تعالى، لأنه هو المقدر للمصائب على الحقيقة، وليس الدهر، وذلك أن العرب كانوا يسبون الدهر عند الحوادث، فقال: لا تسبوه، فإن مقدرها هو الله، فكأنه قال: لا تسبوه، فإنكم إذا سببتموه سببتموني” .
ومما يخل بالأدب مع رسوله مثلا لفظة “راعنا”، التي كان يتلفظ بها الصحابة ويقصدون بها المراعاة، وقد نهى الله تعالى المؤمنين عنها، لأن اليهود يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم ويقصدون بها معنى قبيحا، وهو الرعونة أي الحمق. وأرشدهم إلى البديل فقال: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ” (البقرة:104).
ومما يخل بالأدب مع كتاب الله تعالى مثلا قول الرجل: “نسيت آية كذا أو سورة كذا”، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ، بَلْ هُوَ نُسِّيَ». لما في ذلك من الإشعار بعدم الاعتناء بالقرآن، فإن النسيان يأتي بمعنى الترك والإعراض، ولا يليق بالمؤمن أن يقول هذه الكلمة، حتى لا يدخل -ولو لفظا- في قوله تعالى: “وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى” (طه:124-126).
وإن من أخطر الألفاظ وأنكرها في دين الإسلام، ما يقدح في التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، فإن الله تعالى ما خلق العباد إلا لأجل توحيده بالعبادة كما قال: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ” (الذاريات:56)، أي: ليعبدون وحده لا شريك له. (ابن كثير).
ومن المعلوم في دين الإسلام أن من توحيد الله تعالى التحاكم إلى شرعه، وأن التحاكم إلى غير شرعه نوع من الشرك في العبادة، كما قال تعالى في أهل الكتاب الذين كانوا يتحاكمون إلى أحبارهم ورهبانهم، ويطيعونهم فيما يخالف شرع الله: “اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ” (التوبة:31)، وقد أشكلت هذه الآية على عدي بن حاتم رضي الله عنه -وقد كان نصرانيا- فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: “يا رسول الله، إنا لسنا نعبدُهم! فقال: أليس يحرِّمون ما أحلَّ الله فتحرِّمونه، ويحلُّون ما حرَّم الله فتحلُّونه؟ قال: قلت: بلى! قال: فتلك عبادتهم!” (الطبري في التفسير، وحسنه الألباني).
ولما كان الأمر كذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقر الألفاظ التي فيها منازعة لله في حكمه، أو مصادرة لحقه تعالى في وجوب تحاكم العباد إليه، ولذلك أنكر على من تكنى بأبي الحكم، كما يدل على ذلك حديث شريح بن هانئ عن أبيه هانئ أَنَّهُ لَمَّا وَفَدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؛ سَمِعَهُ وَهُمْ يَكْنُونَ هَانِئًا أَبَا الْحَكَمِ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهُ: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ، وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ، فَلِمَ تُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ؟».
فَقَالَ: إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيءٍ؛ أَتَوْنِي، فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ، فَرَضِي كِلاَ الْفَرِيقَيْنِ. قَالَ: «مَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا! فَمَا لَكَ مِنَ الْوُلْدِ؟». قَالَ: لِي شُرَيْحٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَمُسْلِمٌ. قَالَ «فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ؟». قَالَ: شُرَيْحٌ. قَالَ: «فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ». فَدَعَا لَهُ وَلِوَلَدِهِ .
فانظر -يا رعاك الله- كيف أن التحاكم إلى شخص واحد لا يحكم بشرع الله تعالى، رأى فيه النبي صلى الله عليه وسلم منازعة لله تعالى في حقه، وتأليها لشخصه، فكيف بمن يؤله شعبا، ويُحَكِّم ما لا يحصى من خلقه؟!
فمن المعلوم أن الديمقراطية تَعني “حكم الشعب” أو “حكم الشعب لِنفسهِ بنفسه”، فهي كلمةٌ مركبة مِن كلمتين: الأولى مشتقة من الكلمة اليونانية Δήμος أو Démos وتعني عامة الناس، والثانية Κρατία أو kratia وتعني حكم.
وعلى هذا فإن هذا اللفظ “الديمقراطية”، فيه نظر كبير من الناحية الشرعية، وذلك بغض النظر عن تفاصيل نظام الحكم المعتمد في هذا النوع من الحكم. فلا يليق بالمسلمين أن يطلقوا على النظام الذي يحكمون به هذا اللفظ الذي يتعارض مع دينهم.
ولا يشفع له كونه لفظا أعجميا، فإنه يُرجع في الألفاظ الأعجمية إلى أصل معناه لبيان حكمها، ولذلك نهى العلماء عن إطلاق لفظ (شاهنشاه) على السلطان، وهو لفظ فارسي.
قال النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين: باب تحريم قوله (شاهنشاه) للسلطان وغيره؛ لأن معناه ملك الملوك، ولا يوصف بذلك غير الله سبحانه وتعالى.
ثم أورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: “إنَّ أَخْنَعَ اسْمٍ عِنْدَ اللهِ -عز وجل- رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الأَمْلاَكِ” متفق عليه.
نعم! لا مانع من أن نستفيد من النظام (الديمقراطي) بعض ما فيه من الوسائل والآليات التي لا تتعارض مع دين الإسلام، لكن تحت مسمى “الإسلام” أو “نظام الحكم الإسلامي”، فإن الإسلام يعلو ولا يعلا عليه، كما أن الإسلام بلفظه يدل على الانقياد لله والاستسلام لشرعه، فهو لفظ شرعي سمانا به أبونا إبراهيم، ورضيه لنا ربنا فقال: “وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً” (المائدة:3)، ولم يقبل منا غيره فقال: “وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ” (آل عمران:85). فَلِمَ لا نرضى لأنفسنا ما رضيه لنا ربنا؟! ولِمَ نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟!
فشتان ما بين هذا اللفظ الشرعي الذي ارتضاه الله لنا، وبين لفظ اخترعته الأمم الكافرة بربها، واختارته نظاما لأنفسها، وفرضته على الأمم المستضعفة بقوة المال والإعلام أحيانا، وبقوة الحديد والنار أحيانا أخرى. وصدق الله إذ قال: “وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ” (البقرة:120).
فإن قيل: “لا مشاحة في الاصطلاح”، فالجواب أن هذه القاعدة ليست على إطلاقها، فقد قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “الاصطلاحات لا مشاحة فيها إذا لم تتضمن مفسدة” ، وأي مفسدة أعظم من القدح في التوحيد؟!
خاصة إذا علمنا أن الشرع الحكيم لم يتساهل في هذا الباب، بل شدد فيه أكثر من غيره، حتى إنه نهى عن بعض الألفاظ والأسماء سدا لذريعة الشرك، ومن ذلك -على سبيل المثال- قوله صلى الله عليه وسلم: “لا تُسَمِّيَنَّ غلامك يسارا، ولا رباحا، ولا نجيحا، ولا أفلح؛ فإنك تقول: أَثَمَّ هُو؟ فلا يكون، فيقول: لا” (مسلم).
قال العلماء: “والعلة في الكراهة ما بينه صلى الله عليه و سلم في قوله: فإنك تقول: أثم هو؟ فيقول: لا، فكرهه لبشاعة الجواب، وربما أوقع بعض الناس في شيء من الطيرة” . يعني: حين يسأل عن الشخص في بيته مثلا، فيقول: هل يوجد يسار؟ فيكون غائبا، فيقولون: لا. فربما يتشاءم من هذا اللفظ (لا يوجد يسار)؛ فيقع بذلك في الشرك.
فانظر -حفظك الله- حرص النبي صلى الله عليه وسلم على استبعاد كل الألفاظ التي تفضي إلى الشرك من قريب أو بعيد، حماية منه لجناب التوحيد، فما بالك بكلمة تدل بلفظها ومعناها على منازعة العباد لربهم في حق من حقوقه؟!