الحداثة.. والحداثيون ذ.الحسن العسال

للحداثة تعريفات عند أهلها الأصليين الذين نشأ المصطلح بينهم وفي بيئتهم، وله تعريفات عند دعاتها الذين هم أبواق الغرب في بلادنا، وكذلك عرفها الرافضون لها من المسلمين وغيرهم.
لكننا نقتصر على القول بأن الحداثة، كما عرفها بعضهم، هي القدرة على إخضاع الطبيعة، وإعطاء حرية العقل، وتعظيم قدرة الفرد.
وربما يبدو التعريف بريئا، لا يختلف فيه اثنان، ولا ينتطح فيه عنزان، إلا أن الشيطان يحضر في التفاصيل، فما معنى هذا التعريف عند القوم؟
إن إخضاع الطبيعة والسيطرة عليها؛ بل وتجاوزها،  لا تعني إلا الكفر بالميتافيزيقا، المقصود بها الغيب. أما إعطاء حرية العقل فلا تعني عندهم، إلا وضع العقل فوق النص، أي نص، ولو كان القرآن الكريم!!
وأما تعظيم قدرة الفرد، فتعني نقل مركز الاهتمام من اللاهوت إلى الناسوت، أي انتصار الإنسان على الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، أي عوض تقديس الذات العلية يتم تبجيل الإنسان، لكن الإنسان المقصود عند الحداثيين الأصلييين هو الإنسان الأوربي ابتداء، ليشمل الأمريكي لا حقا، وكفى.
لكن، عندما يتحدث بنو حداثة، وخصوصا السياسين منهم، عن الحداثة، يوهمون المستمع أنهم يقصدون التطور التكنولوجي، والتقدم العلمي، والتنمية الاقتصادية. والحقيقة أنهم لا يقصدون من هذا المصطلح إلا الحرية الفوضوية، والعقل غير المنضبط، والتمرد على كل الأخلاق والقيم. وإن أحسنا الظن ببعضهم، فهم جاهلون بالمقصود من الحداثة، لأنهم ركبوا موجتها فقط، خشية أن يقال عنهم رجعيون متخلفون، فهم مجرد إمعات، عاجزون عن توطين أنفسهم. وهذا لا يعفيهم من المسؤولية الأخلاقية الملقاة على عاتقهم، إذ حري بهم ألا يتبنوا مفهوما حتى يعرفوا معناه وأبعاده.
هذا مع أنهم مهما انسلخوا عن تراثهم، فإن الغرب لن يشهد لهم بالحداثة، إلا نفاقا ونفعية.
أما عشاق الحداثة المثقفون، الذين يزعمون ألا نهوض للأمة العربية إلا بها، فمنهم من يعلنها حربا على التراث دون مواربة أمثال العروي، ومنهم من ينتقد الحداثة -الجابري- لكونها كانت تكرس “فكرة تقدم الإنسان الأوربي، وجدارة أوربا بالهيمنة على العالم “لتمدينه”، ونشر “الحضارة” في أرجائه”، مقابل تدرجه من قراءة التراث الفلسفي العربي، إلى “قراءة” ما يسمونه النص المؤسس، ألا وهو القرآن الكريم، وذلك إمعانا في التقية الحداثية، التي يسميها أدونيس “مداورة”.
والذي يقول: فاضحا أحد رفاقه الحداثيين، إن “محاولة أركون، التي تتلخص في قراءة النص التأسيسي الأول، أي النص الديني، بوصفه نصا تاريخيا، خطوة مهمة جدا. وهذا ما حاوله، لكن مداورة، ومن غير المضي إلى نهايات هذه الأطروحة، ناصر حامد أبو زيد”.
وقال عن العروي إنه كان “يتناول نصوصا فرعية نشأت بعد النصوص التأسيسية”.
وكأن القوم يوزعون الأدوار بينهم، بل ويتداعون، ويشجع بعضهم بعضا، للإجهاز على مقوماتنا، ومحو القداسة من نفوسنا تجاه نصوص الوحي، لتتداعى ما دونها من نصوص تباعا.
يقول أدونيس محرضا: “إن محاولة أركون [أي قراءة النص التأسيسي الأول] تحتاج إلى المزيد من الجرأة، وإلى المزيد من التوسع، وإلى المزيد من البناء على الأطروحة التي يقدمها”.
لكن أركون تخونه شجاعته، ويأبى أن يذهب مع “قناعاته” إلى نهايتها، فيخسر “شرف شهيد[1] الحداثة”، وهذا ما يؤكده أدونيس بقوله عنه: “ولديه خشية من أن يؤدي ما يقوله إلى أن يدفع حياته ثمنا لذلك، وهو ليس مستعدا، كما قال لي، ليدفع هذا الثمن”.
وهل المؤمن بفكرة يخشى من تقديم حياته ثمنا لها، إلا أن يكون في قرارة نفسه يعلم أنه متطفل عليها، وجانٍ بها على “بني جلدته”! ويعلم علم اليقين أن الحداثة مشروع غربي محض، ولم تكن أبدا اختيارا ذاتيا، بل لم يعرفها العرب إلا في أكلح الظروف، على شكل صدمة، مع الغزو البونابارتي لمصر، ثم تم حملها تباعا على دبابات الاستخراب الغربي لتعم العالم العربي، ولا زالت الوسيلة المفضلة لنشرها إلى يوم الناس هذا، الحديد والنار، والعراق وأفغانستان لازالتا شاهدتين على تحديث الغرب لهما!
إن مما يثير استغرابي، هو المفارقة التي يعيشها الحداثيون، بين ما يقتنعون به، ويعملون على ترويجه، وبين ما يمارسونه واقعا.
فهم من جهة، يدعون إلى إعادة استخدام النصوص، ويعتبرون التراث عائقا في وجه الحداثة، ويقيمون حربا شعواء على سلفنا الصالح.
ومن جهة أخرى، يعتبرون نصوص الفلاسفة والمفكرين الغربيين مسلمات يبنون عليها صرح الحداثة التي يرنون إليها.
كما يجعلون من التراث الغربي تراثا عقلانيا، يستلهمونه لتأسيس الحداثة في بلادنا، مستشهدين في ذلك بسلفهم “الصالح”، أمثال ديكارت وإنغلز وكانط وغيرهم.
لكن لماذا التشبث بالحداثة عوض الأخذ بالتحديث؟
مادام العقل أس الحداثة، والركن الركين فيها، فهل من العقل والعقلانية استنساخ وإسقاط الحداثة على مجتمعات لم تخضع لنفس الشروط التي هيأت لها في مجتمعها الأصلي؟
فإذا كانت الحداثة ثورة على الكنيسة لأسباب تاريخية يعرفها الجميع،  فهل هذا يجعل من المسجد كنيسة، دون الأسباب التاريخية السالفة الذكر! أم أن الحداثة وقعت خلسة عن علم الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، كما يشير لذلك الحداثي هشام جعيط بقوله: “فلم تأت الحداثة بمفعول قرار إلهي أو قضائي”.
إذن، علينا الأخذ بالتحديث الذي يعني التطور التقني، ونقل التكنولوجيا إلى بلداننا، وجعلها تحتل موقعا دائما في الحياة اليومية، للفرد والمؤسسات، دون إغفال أن من الواجب العمل على حيازة تكنولوجيا خاصة بنا وإعداد الأسباب لذلك، بوضع استراتيجية لتشجيع البحث العلمي، في كل المخططات الحكومية، وجعل ميزانيتها كميزانية وزارة الدفاع شكلا ومضمونا، عوض التآمر على هدم قيمنا وخصوصياتنا، في المحافل الدولية، باسم الحداثة.
خلاصة القول إن التحديث يعني استغلال العلم والتكنولوجيا، لرفاهية الإنسان وتقدم المجتمع، دون المساس بنظرتنا للكون والإنسان والحياة، كما تفعل ذلك الحداثة.
فكل حداثة تحديث، وليس كل تحديث حداثة، لأن الجزء الثاني من الحداثة، هو خاص بالمجتمع الغربي، الذي نختلف عنه جملة وتفصيلا، وإذا طبقناه فقدنا ذواتنا، وانسلخنا من جلودنا.
وأتساءل، والأسى يعصرني، هل مثل هذا التآمر -تهريب السيداو نموذجا- أدى أو سيؤدي إلى التنمية والتطور والتقدم؟
…وبالمناسبة أنصح مهربي القيم، أن يقوموا بتهريب معاكس، سيكون له الأثر البالغ على حياتنا، وسنكون لهم ممتنين طيلة حياتنا، وتتمثل هذه الفكرة في تهريب الأسرار العلمية من الغرب إلى بلداننا، والعمل على ترسيخها وتثبيتها ضمن استراتيجية البحث العلمي السالفة الذكر.
لكن، مع الأسف، ما يجعل الحداثيين يتآمرون على قيم بلدانهم، لا يكمن في الحداثة فقط، بل يتعداه إلى أنهم يؤمنون بالغرب إيمانا ميتافيزيقيا، على الرغم من معارضتهم الشديدة لهذا المفهوم، ويلغون عقولهم أمام أدنى هبة ريح منه.
فهذا الحداثي العفيف الأخضر، لم يمنعه عقله الحداثي من الاعتقاد بأنه انحذر، حسب قوله،  من ابن عمه الشامبانزي[2]، كما أوحى له بذلك “نبيه” داروين. ويؤكد أن الفرق بينه وبين القرد إنما هو “العمل الذي حوله إلى إنسان”، كما أخذ ذلك عن “سلفه الصالح” فردريك إنغلز!
فهو يؤمن بهذه الخرافة، مع أنه يعتقد أن: “الحداثة هي انتصار العقل على النقل، أي انتصار الاستدلال على إيمان العجائز، والمعقول على المنقول عن الأسلاف من عادات وتقاليد ومعتقدات، عاجزة عن إثبات شرعيتها أمام محكمة العقل”.
فلا أدري عن أي محكمة عقل يتحدث، وهو الذي ناقض تعريفة جملة وتفصيلا، لأن الاعتقاد بأن الإنسان قرد ليس له أي دليل علمي، اللهم إلا النقل عن السلف الأوربي المتمثل في داروين وإنغلز!
وليصبح الحداثيون وليمسوا على حداثة، ونحن لن نقبل بتراثنا ولا بسلفنا ولا بإسلامنا بديلا، مهما طبلوا وزمروا، ومهما أرعدوا وأزبدوا وتآمروا…

1- عفوا، الشهيد مصطلح إسلامي، وفي عرفهم تراثي، بل ميتافيزيقي.. ومع ذلك يتاجرون به.
2- نعم،  ينادي القرد بابن عمه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *