صحة الفكر.. الموانع المفسدة.. والأسباب المقوية.. رشيد مومن الإدريسي

الانحراف الفكري هو هوى استحكم بعقل صاحبه واستقر في فؤاده وغير مسار نظره وتأمله وحركة عقله، حتى مال عن طريق الهداية إلى الغواية فانقلبت لديه الموازين، فأصبح المعروف لديه منكرا، والمنكر معروفا..
ونسبة الانحراف إلى الفكر تعني فساد القوة المدركة بالشهوات أو الشبهات، مع العلم أن أثر هذه الأخيرة أعظم لحصول الجنوح والميل عن الحق والاعتدال..، وحدوث الزيغ والضلال والاعتلال..، وهي المقصودة بالكلام في هذا المقال..
فـ”من سلك طريقا بغير دليل: ضَلَّ، أو تمسك بغير أصل: زَلَّ”1، وهذا من أسباب ظهور (التجنس الفكري)..، الذي يحدث (القلق الفكري)..، المولد (للإجهاض الفكري)..، ومع الغفلة أو التغافل يتبدى (الغرور الفكري)..
فالتفكير إذا سبقه الميل والمبالغة في حسن الظن بالنفس أو الغير، أو مجاوزة الحد في إساءته يُحول من (التفكير المنصف).. إلى (التفكير الموجه)..، واهتم صاحبه بمصدر الفكرة أكثر من اهتمامه بدليلها وبرهانها والأصل الذي بنيت عليه، فضلا عن دراستها والنظر في مغزاها، وإحكامها ومضغها، وهذا يتجلى كثيرا عند المعارضات والمحاجات التي هي من الأسباب التي تظهر “ضعف الباطل وزهوقه، وتبين قوة الحق وثبوته، فالحجة تتبختر اتضاحا، والشبهة تتضائل افتضاحا، وقد خلت سنة الكون بأن الفتن تنير الطريق لأهل الحق، وتظلمه على أهل الباطل”2.
فاعلم -يا رعاك الله- أنه بالتأني تتحقق نظرا الدلائل..، وتحترق بحثا المسائل..، وبعدم الإحكام يَفْسُد الفكر وتضل الأفهام..، فتضطرب الأنظار وتزل الأقدام..، فَيُفْقد العلم ويسوء الفهم وتكثر الأوهام..
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: “من تعلم علما فليدقق فيه لئلا يضيع دقيق العلم”3، ولذا ما أحوجنا في ميدان المعرفة والفكر4 إلى الفهم والتحقيق..، والنظر الدقيق..، حتى لا نخرج عن النهج العتيق..
فمن الضروري -إذن- لمن جعل فكره يسرح في مجالات الثقافة والمعرفة أن يعي الموانع التي تبعده عن صحة الفكر ليتجنبها طلبا لسداد النظر، كما ينبغي الحرص على مراعاة الأسباب أو الوسائل المقوية لجودته، مع التنبيه أن البحث في هذا طويل الذيل كما يقال، لكن حسبي أن أذكر مسائل مختصرات..، وألمح إلى بعض الإشارات..
جملة ما يمكن أن يُذكر في خصوص موانع صحة النظر والفكر:
أولها: (الخطأ في تقويم مصادر المعرفة)، فـ”من جهل الأصل لم يصب الفرع أبدا”5، و”من حق البحث والنظر الإضراب عن الكلام في فروع لم تحكم أصولها، والتماس ثمرة لم تغرس شجرها، وطلب نتيجة لم تعرف مقدماتها”6.
ثانيها: (التحاكم إلى المزاج النفسي)، فـ”من خاض في الشغب تعوده، ومن تعوده حرم الإصابة واستروح إليه”7، “وقل أن يصح رأي مع فورة طبع، فوجب التوقف إلى حين الاعتدال”8، وعليه كان من المعلوم عند النظُار “أن الرأي لا يتحقق إلا مع اعتدال المزاج”9.
فأفرغ القلب عن الشواغل وانأ عن الجدال والمشاكل
ثالثها: (التعصب وجعل الهوى مقدمة النظر): “ولذلك سمي أهل البدع: أهل الأهواء لأنهم اتبعوا أهوائهم فلم يأخذوا الأدلة مأخذ الافتقار إليها والتعويل عليها، حتى يصدروا عنها، بل قدموا أهوائهم واعتمدوا على آرائهم، ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظورا فيها من وراء ذلك”10، ومن تم “فإن التعصب مذهب للإخلاص، مزيل لبهجة العلم، معم للحقائق، فاتح باب الحقد والخصام الضار”11.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “السالك من الفقه والعلم والنظر والكلام إن لم يتابع الشريعة ويعمل بعلمه، وإلا كان فاجرا ضالا عن الطريق فهذا هو الأصل الذي يجب اعتماده على كل مسلم، وأما التعصب لأمر من الأمور بلا هدى من الله فهو عمل الجاهلية، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله”12.
رابعها: (الربط بين أمور غير مترابطة)، وهو ربط فاسد ناتج عن التخيل والتوهم، والظن والتخمين فـ”من الآفات التي تصيب النظر والفكر وتمنعه من إدراك الأشياء على حقيقتها الربط بين أمور في الأذهان لا رابط بينها في واقع الأمر، ولا علاقة حقيقية تجمعها جمع تلازم وترابط حقيقي”13.
خامسها: (الانحراف عن المآخذ العلمية)، وهذه هذه وما يعقلها إلا العالمون، فـإنه “إذا ذكرت أصول المسائل ومآخذها ومقاصد الشرع وبيان حكمها وأسرارها، تقررت في الأذهان وصار هذا العلم على هذا الوجه أكمل بكثير من تعلم مجرد صور المسائل وأفرادها دون حكمها ومأخذها، فإن هذا النوع قليل الثبوت في الذهن، لا يكسب صاحبه تمرنا على المباحث العلمية والتفريعات النافعة، ولا يهتدي إلى الفرق بين المسائل المتفرقة أحكامها، ولا إلى الجمع بين المسائل المجتمعة أحكامها في أصل وعلة”14.
سادسها: (قطع النظر عما يجب أن يعتبر)، فـ”لا ريب أن مما يقصر النظر عن الغاية المطلوبة التركيز على طرف واحد من أطراف ما فيه البحث والنظر بلا اعتبار لتلك الأطراف الأخرى الواجب اعتبارها بوجه ما”15.
أما فيما يتعلق بالأسباب أو الوسائل المقوية لصحة الفكر وسداد النظر فمنها:
أولا: (التخمير)، فـ”خمير الرأي خير من فطيره”16، وعليه فمن حرم التوفيق، واستدبر الطريق، ونكلَ عن التحقيق: استروح بـ (سرعة بديهته)! فمشى ورائها دون تؤدة، واعتمد على مجرد ما يقع في نفسه بلا مراجعة مع أن “من تأنى وتثبت تهيأ له من الصواب ما لا يتهيأ لصاحب البديهة”17.
ثانيا: (التأمل)، فـمن المهمات في باب النظر والفكر، “التحلي بالتأمل، فإن من تأمل أدرك، وقيل: تأمل تُدرك”18، ومنه فمن “حكم بما يهجس في نفسه ويستحسنه من غير دليل، فحكمه ظاهر الفساد، لأن ذلك حكم بالهوى، واتباع للشهوة، والأحكام مأخوذة من أدلة الشرع، لا مما يقع في النفس”19.
ثالثا: (حرقة المعرفة)، فإنه من أسباب جودة القريحة وسداد الفكر: نهمة الرجل ومداومة النظر، فـ”الحق له نور، وصاحبه مؤيد منصور،.. ولا تُنال هذه المرتبة إلا بمدد يستنير به القلب من مشكاة الفضل والرحمة.
(وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ).
وإلى ذلك أشار مالك رحمه الله بقوله: (الحكمة والعلم: نور يهدي به الله من يشاء، وليس بكثرة المسائل).
(وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ).
نعم لا بد من السعي والجد في طلب الحق من العلوم تعرضا لنفحات الله امتثالا لحكمته تعالى في ربط المسببات بالأسباب.
فإن المحققين ما نالوا حقائق العلوم إلا بالشوق إليها والنهمة فيها بحرقة تجمع أطراف الفكر إلى ما هو بصدده، وهي حرقة نور لا حرقة نار.
وخصلة الإنصاف ملاك الأمر كله، ومن يصده العناد والحسد عن الإذعان للحق فلا التفات لمعارضته عند العقلاء وإلغاؤه أوجب، إذ لا استعداد فيه للاستفادة ولا يؤمن هواه إن قصد الإفادة”20.
رابعها: (التلقيح الفكري)، ومن جهاته قراءة البحوث العلمية المجردة، والكتب الفكرية الرصينة لكن باعتدال وتأصيل سديد، حتى لا نقع في (الفجور الفكري) وهو أمر أكيد، لأن النظر في (القضايا الفكرية) دون دراية كافية بـ(قواعد علوم الشريعة)، والولوج إلى ميدانها بـ (آليات هشة)، وبغير أسس ومعالم مهمة سبب لكي تتربى في النفوس الآراء السقيمة21، وهذا هو المقصود من قول من قال: “كثرة النظر إلى الباطل تذهب بمعرفة الحق من القلب”22، ولذا فالنظر في سوانح الأفكار بلا علم منضبط جنون، وطلب السلامة مع ذلك من إصابة الأنظار بقرحة لن يكون.
……………………………………
1. صبح الأعشى 1/99 للقلقشندي.
2. تنبيه الطالب إلى معرفة الفرض والواجب للعلامة جمال الدين القاسمي رحمه الله 105.
3. المدخل إلى السنن الكبرى للإمام البيهقي رحمه الله.
4. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله: “الفكر في الاصطلاح: حركة النفس في المعقولات، وأما حركتها في المحسوسات فهو في الاصطلاح تخييل.. والفكر لا يكون إلا في القلوب ” أضواء لبيان 6/168.
5. جامع بيان العلم وفضلة للحافظ ابن عبد البر رحمه الله 2/1140.
6. من قالات الإمام أبي القاسم عبيد الله كما في جامع بيان العلم 1/785.
7. الواضح في أصول الفقه للإمام ابن عقيل رحمه الله 1/521.
8. من قول الإمام ابن عقيل رحمه الله كما في الآداب الشرعية للإمام ابن مفلح رحمه الله 65 – مهذبه.
9. بدائع الفوائد للإمام ابن القيم رحمه الله 3/136.
10. الاعتصام للإمام الشاطبي رحمه الله 2/176.
11. الفتاوي السعدية 459.
12. مجموع الفتاوي لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله 11/28.
13. تجديد أصول الفقه لمولود السريري 27.
14. إرشاد أولي البصائر للعلامة السعدي رحمه الله 193.
15. تجديد أصول الفقه لمولود السريري 35.
16. صيد الخاطر لابن الجوزي رحمه الله 126.
17. قاله أبو عثمان الحداد رحمه الله كما في إعلام الموقعين 1/36.
18. حلية طالب العلم للشيخ بكر رحمه الله 23.
19. اللمع لأبي إسحاق الشيرازي رحمه الله 67.
20. هيئة الناسك في أن القبض في الصلاة هو مذهب الإمام مالك 52-53.
21. قال العلامة الخضر حسين رحمه الله لما قال: “الآراء الفاسدة، والشبه المغوية، تربي في النفوس الضعيفة أذواقا سقيمة” رسائل الإصلاح 1/99.
22. قاله إبراهيم بن أدهم رحمه الله كما في حلية الأولياء 8/22، وشذرات الذهب 2/227.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *