سألني كثيرٌ من الإخوة عن كتاب (الأغاني) لأبي الفرج الأصبهاني وألحّوا عليّ في الكتابة عنه ليكونوا على بيّنة من أمرهم، بعدما ضاقوا ذرعًا بفتاوى المتنطّعين الذين ينتسبون إلى العلم الشّرعي بزعمهم، وكأنّ الأدب وما جاوره رجس من عمل الشيطان الذي ينبغي أن يتجنّبه من كان تقيّا وإلا سيدخل إلى جهنّم مع الدّاخلين، أو لأنّهم سمعوا من شيوخهم أنّ أبا الفرَج كان متشيّعا، علمًا أنّهم لا يُفرّقون بين تشيّع الأقدمين الذين يقدّمون عليّا على غيره من الصّحابة دون طعن أو لمز أو كراهية، وبين تشيّع الرّافضة التي لا ترقب في صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلاّ ولا ذمّة…
ومن العلماء الذي أطالوا ألسنتهم في الأصبهاني ابنُ الجوزي في تاريخه (المنتظم) إذ قال: ومثله لا يُوثق به، فإنّه يصرّح في كتبه بما يوجب عليه الفسق، ويهون شرب الخمر، وربما حكى ذلك عن نفسه، ومن تأمّل كتاب الأغاني رأى كلّ قبيح ومنكر.
قلتُ: ابن الجوزي عفا الله عنّا وعنه دومًا يهاجم أهل الأدب والشعر بكلّ نقيصة، لذلك لا ينبغي أن يُسلّمَ له بكلّ ما يقول، فالأدب والنّقد له أهله وأئمته.. أمّا ابن الجوزي فليبقَ في عالم الوعظ، والعلم الشّرعي الذي له فيه أوهام ذكرها الذّهبي وغيرُه ليس هذا مقام سردها. بل إنّه هاجم حافظ المغرب ابن عبد البرّ الأندلسي ووصفه بالجهل في كتابه صيد الخاطر كما أشرتُ إلى ذلك في بعض كتبي.. وقرأت في كتاب (متاهات القول) للنّاقد المغربي عبد الفتاح كيليطو: (كان ابن الجوزي يكره أبا العلاء المعري). قلت: وعلى أبي العلاء فقِس.. ومن يطالع المنتظم يرى ذلك جليّا. نعوذ بالله من قلّة الإنصاف.
فأبو الفرَج رحمه الله له كغيره من أدباء هذه الأمّة حسنات وسيئات، ومن الظّلم أن نجرّده من كلّ فضائله ومزاياه بسبب (الإيديولوجيا)، فهذه منهجية ضيّقة لا ينبغي للباحث أن يتورّط في مسالكها الوعرة حين يبحث في شخصية من الشّخصيات. وإلا سيكون كالببغاء يردّد كلام غيره دون تمحيص.
ولنقارن بين حكم ياقوت الحَمَوي في الأغاني وبين قول ابن الجوزي لنعرف الفرق بين حكم الفقهاء والأدباء، يقول ياقوت في معجمه ج4 ص1708: “ولعمري إنّ هذا الكتاب لجليلُ القدْرِ شائعُ الذّكر، جمّ الفوائد، عظيم العلم، جامع بين الجدّ البحت والهزل النحت، وقد تأملت هذا الكتاب وعُنيت به وطالعته مرارًا وكتبت منه نسخة بخطي في عشر مجلدات”.
وقال ابن خلدون في المقدّمة:
“وقد ألّفَ القاضي أبو الفرَج الأصبهاني، وهو ما هو، كتابه (الأغاني) جمع فيه أخبارَ العرب وأشعارَهم وأنسابَهم وأيامَهم ودُولهَم، وجعل مبناه على الغناء في المائة صوت التي اختارها المُغنّون للرّشيد، فاستوعب فيه ذلك أتمّ استيعاب وأوفاه. ولعمري إنّه ديوان العرب وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كلّ فنّ من فنون الشّعر والتّاريخ والغناء وسائر الأحوال، ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه، وهو الغاية التي يسمو إليها الأديبُ ويقفُ عندها، وأنّى له بها”.
يقولُ العلاّمة أمجد الطّرابلسي في كتابه نظرة تاريخية في (حركة التـأليف عند العرب في اللغة والأدب ص:158): “كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني فهو في الحقيقةِ من أغنى الموسوعات الأدبية القديمة التي تعتزّ بها المكتبة العربية، وهذا الكتاب أوسع مصدر نمْلكه في تراجم شعراء العربية حتّى نهاية القرن الثّالث الهجري”.
وليسَ يعنينا كتاب الأغاني هنا إلاّ من حيثُ كونه مصدرًا من مصادرنا الهامة في تراجم الشعراء، ففي هذا الكتاب ما يقرب من خمسمائة ترجمة لخمسمائة شاعر وشاعرة عاشوا في الجاهلية وصدر الإسلام والعصر العباسي الأوّل. وجُلّ هذه التراجم شديدة التّفصيل غزيرة المادة تحتوي على قسط وافر من أخبار الشعراء المُترجم لهم ومن آثارهم. بل إنّ بين هذه التراجم ما لو أفرِد عن الكتاب لجاء كتابًا مستقلا بنفسه.
كان أبو الفرَج يجمع بين سَعَة الرّواية والحذق في الدّراية كما كان معروفًا بحسن استيعاب ما يتصدّى لجمعه. فكان يروي ما يروي في كتابه مرفقا بالأسانيد المُطوّلة، كما كان يُشيرُ إلى مصادره المكتوبة في كثير من الأحيان. وكان أكثر تعويله على الكتب المنسوبة الخطوط أو غيرها من الأصول الجِياد، كما يذكر ابن النديم في (الفهرست). وكل من تصفّح هذا الكتاب لا بدّ أن يقدّر ما بذل في تصنيفه من جهود، مقتنعًا أنّ مؤلّفه لم يكن يغالي كثيرًا حين زعمَ أنّه أنفقَ خمسين عامًا من حياته في جمع مادّة كتابه.
ولاشكّ أن أبا الفرَج قد صدر في كتابه هذا عن كلّ ما ألِّفَ قبله في الشعر والشعراء. وكثير من المصنّفات التي صدر عنها أبو الفرَج واستقطرها في أغانيه قد فُقدت اليوم. ولا ريبَ في أنّ وصول الأغاني بتمامه إلينا يُخفّف من أسفِنا الشديد على فقد هذه المُصنّفات. ذلك أنّ أبا الفرَج عرف كيف يصهرُ في كتابه الرّحب أثمن معارف عصره الأدبية، بعد أن استقاها من عشرات الكتب. وهذا معنى ما رُويَ من أنّ الكاتب والوزير البويهي المشهور بالصاحب بن عبّاد، الذي كان مُولعًا باقتناء الكتب حتى اجتمع منها في خزانته ما لم يجتمع عند غيره، كان إذا سافرَ استصحب معه من الكتب ما يُحمل على ثلاثين جملاً، فلما وصل إليه كتاب الأغاني استغنى به عنها.
روى ياقوت الحموي في (معجم الأدباء) في ترجمة الأصبهاني أنّ الصاحب بن عبّاد لما علم أنّ سيف الدّولة بن حمدان كافأ أبا الفرَج على كتابه الأغاني بألف دينار قال: (لقد قصّر سيفُ الدّولة، وإنّه يستأهل أضعافها. ولقد اشتملت خزانتي على مائتين وستة آلاف مجلد ما منها ما هو سمير غيره، ولا راقني منها سواه).
قال عنه الذّهبيُّ في السيّر ج16 ص202: كان بحرًا في نقل الآداب… وكان بصيرًا بالأنسابِ وأيّام العرب، جيّدَ الشِّعر.
قال عليّ التَّنُّوخي: كان أبو الفرَج يحفظ من الشّعر والأخبار والأغاني والمُسندات والنّسب ما لم أرَ قطّ من يحفظ مثلَه، ويحفظ اللّغة والنّحوَ والمغازي. وله تصانيف عديدة، بعثها إلى صاحب الأندلس فجاءه الإنعام.
والعجب أنّه أمويّ شِيعي***وكانَ وَسِخًا زريّا يتّقون هِجاءَه.
قال ابنُ كثير في تاريخه ج8 ص118: كان شاعرًا أديبًا كاتبًا، عالمًا بالأخبار وأيام النّاس، إلاّ أنّه كان يتشيّع.
وفي تاريخ بغداد للخطيب ج13 ص339:
سمعت أبا الحسن النّوبختي يقول: كان أبو الفرج الأصبهاني أكذبَ النّاس كان يدخلُ سوق الورّاقين وهي عامرة، والدّكاكين مملوءة بالكتب، فيشتري شيئا كثيرا من الصّحف ويحملها إلى بيته ثمّ تكون رواياتُه كلّها منها.
وكان أبو الحسن البَتي يقول: لم يكن أحدٌ أوثقَ من أبي الفرَج الأصبهاني.
قلتُ: فانظر -يرعاك الله- كيف يتناقض الحكم فيه من شخص لآخر، وقديما كنا نقرأ: إذا اختلفت الآراء في رجل واحد فاعلم أنّه عظيم.
أمّا ما نقله ياقوت الحموي في معجم الأدباء: من أنّه كان وسخًا في نفسه وثوبه وفعله حتى إنّه لم يكن ينزع دراعةً يقطعها إلا بعد بلائها وتقطيعها، ولا يعرفُ لشيء من ثيابه غسلا ولا طلب منه في مدّة بقائه عوضًا.. فذاك شيء لا يهمّنا ولسنا في محلّ للمأكولات حتى تعافه أنفسنا، وعلى قول أبي العلاء:
خذي رأيي وحسبك ذاك منّي***على ما فيّ من عِوَجٍ وأمتِ
والمفيد عندنا أن نعرف أنّ هذا الكتابَ كتابُ أدب وشعر وتراجم، لكن أخباره لا ينبغي أن نأخذها كما لو كنّا نأخذ أحاديث البخاري أو مسلم، بل يجب تمحيصها ومقارنتها مع غيرها من الأخبار المبثوثة في كتب التّاريخ والترّاجم الأخرى، ونحن حين نقرأ الأغاني نقرأه لتقوية الملكة اللّغوية، والتّعرف على حياة الشعراء وغير ذلك من الأمور التي لا ينبغي أن يجهلها طالب علم مبتدئ فضلا عن غيره. لم نفكّر قطّ أن نأخذ العقيدة والأحكام الشرعية عنه ولا عن غيره من الكتب الأدبية، حتى نسرف في التّحذير منه كلّ هذا الإسراف الذي نسمعه بين الفينة والأخرى من المتنطّعين.
يقول علي الطنطاوي في كتابه (فصول في الثقافة والأدب): أما كتاب الأغاني فإنّ من أراد متعة الأدب، وطلب جيد الشّعر، وأراد الإحاطة بأخبار الشّعراء والمُغنّين، للذّة الأدبية وتقوية الملكة البيانية، فلا يجد كتابًا أجمعَ لهذا كلّه منه. وما منّا إلا من كان (الأغاني) عُدّته الأولى في إقامة اللّسان وتجويد البيان. ولقد قرأته كلّه (وهو بضعة وعشرون جزءًا) ثلاث مرّات، واستفدت منه في الأدب واللغة ما لم أستفد مثلَه من غيره.
قلتُ: أفضل طبعة لكتاب الأغاني دار الكتب المصرية وتكملتها بالهيئة العامة للكتاب،..وهناك طبعة أخرى للثقافة، وكذلك طبعة دار صادر تحقيق إحسان عباس وهي التي عندي إذ لم أجد بعدُ طبعة دار الكتب المصرية.
وهناك ثلاث دراسات جادّة عن هذا الكتاب ومؤلّفه نذكرها هنا لمن أراد التّوسع والإحاطة: كتاب (دراسة الأغاني) للأستاذ شفيق جبري، وكتاب (أبو الفرَج الأصبهاني وكتاب الأغاني) لمحمد عبد الجواد الأصمعي وقد حصّلته وهو مفيد جدا، وكتاب (صاحب الأغاني: أبو الفرَج الأصفهاني الرّاوية) للدكتور محمد أحمد خلف الله.
توفي أبو الفرَج رحمه الله يوم الأربعاء لأربع عشرة خَلَوْنَ من ذي الحِجّة سنة ستّ وخمسين وثلاث مائة، ومولده سنة أربع وثمانين ومائتين.