فشلت الدولة الليبرالية حينما نجحت…!
هذا هو أصل مقاصد كتاب باتريك دينين “لماذا فشلت الليبرالية؟“، وهذا أمر يحتاج إلى تفصيل وتمديد، وهو ما استطاع المؤلف مقاربته كثيرا، صحيح أنه يتحدث من داخل المجتمع الأمريكي، عن الليبرالية الأمريكية، ولكننا جميعا مخاطبون بالمعاني المشتركة في نقده وقراءته، والمشروع الأمريكي الليبرالي الذي سهرت الإدارات الأمريكية على تنزيله في المجتمعات الأخرى، حيث تضع قدمها أو يدها، فشل في تحقيق دعاوي الحرية، أو قل: بناء العالم الحر، بل إن الأمر انقلب إلى ضده، وصار المشروع قائما على سلب الحريات الحقيقية العليا، الجماعية والفردية، في مقابل توزيع الحريات الفردية الدنية، والأمر أكبر وأخطر من كل هذا، وهو ما سأحاول استخراجه من الكتاب.
تعني “الليبرالية” فكرة الحرية الإنسانية في كل شيء، في السياسة والاقتصاد والعلاقات المجتمعية وغيرها، وحينما تصير هذه الفكرة هي الخط الذي تسير عليه دولة ما، فهذا يعني أن تتحول الليبرالية من فكرة إلى مشروع، وهو الذي حصل لمجموع الدول العلمانية في العالم، المتقدمة منها أو النامية.. في مقياس الليبرالية..!
يقوم العقد الاجتماعي بين الدولة الليبرالية، والمواطن الليبرالي على أن توفر الدولة كل إمكانيات المتعة والخدمات للمواطن، بشرط أن يقطع علاقاته مع التاريخ والدين والأخلاق، والثقافة المجتمعية، ليتحول إلى مواطن فرد، يتعامل مع الدولة باعتباره كذلك، حتى إذا انفرد، لم يجد له من ملجئ ولا منجا إلا الدولة، فعندها طعامه ودواؤه وكفنه، ويؤول الأمر إلى أن يصير هذا التعاقد تعاقد ولاء للدولة في مقابل توفير الخدمات، ويصير هذا المواطن بمقتضى هذا العقد معزولا عن كل العلاقات الإنسانية، فيتحول إلى كائن مستهلك للسلع تستعبده الأسواق، دافع للضرائب، وهذا هو المواطن في الدولة الليبرالية.
تعني الليبرالية القطع مع التاريخ والمستقبل، وتعني ليبرالية الدولة صناعة “مواطن” خاضع راض، يتمتع بقدر من الحريات الجنسية والمادية، يستغرق وقته فيها فتستغرقه، ويقنع بما توهمه الدولة الليبرالية بإعلامها ومدارسها بأنها الحياة الأفضل والأعلى، وهو في الحقيقة ،”عبد” الدولة.
استطاعت الدولة الليبرالية تفريغ غالب المؤسسات التاريخية والمدنية والمجتمعية من محتواها الأصيل، وحشتها بمنظومة غسيل أدمغة متطورة، أوهمت “المواطن” بأنه في الحقيقة، كائن مستهلك، واستطاعت أن تأخذ منه حريته الحقيقية في ضبط شهواته، والتعقل في حياته، وأن تمكنه من حرية معدلة، فهي عند التحقيق ليبرالية معادية للحريات الإنسانية.
الليبرالية منظومة من السلطات والأسواق والأيديولوجيات العلمانية، تسعى إلى فرض السيطرة على الطبيعة والإنسان نفسه لصالح نخبة متفوقة، ترى لنفسها الحق في إدارة العالم، وسياسة باقي الناس باعتبارهم بهائم آكلة متناسلة.
استطاعت الدولة الليبرالية أن تضيق على الثقافة الإنسانية، بل إنها باشرت عمليات التضييق المباشرة في الجامعات والمؤسسات التعليمية، حيث حولتها إلى مصانع لإنتاج المهندسين والتقنيين والفنيين لحاجتها إليهم، فالتكنولوجيا الليبرالية هي أساس السوق العالمية، ولذلك تحرص الدولة الليبرالية على التضييق على مسالك التعليم المتعلقة بالإنسان وقيمه وفكره وتاريخه، فلم يعد هناك اعتبار للعلوم الإنسانية بأنواعها، فسحبت منها مساحات كبيرة حقيقة ومجازا لصالح مدارس التكنولوجيا وكلياتها، كل ذلك، للانتقال من “الإنسان” إلى “الكائن المستهلك” أو “عبد الدولة” الذي تستخدمه في الحقول والمزارع…التكنولوجية.
من أعجب التناقضات اليوم، أن ترى المفكر الليبرالي يدعو إلى “الدولة الليبرالية“، وهي الدولة التي تسعى إلى تحويل هذا المفكر الليبرالي إلى عبد ليبرالي، ووجه التناقض أنه يدعو إلى دولة تزيل عنه صفة المفكر الحر، لأن “الدولة الليبرالية” ستعامله باعتباره فردا منفردا، له حقوق التمتيع والخدمة ونول الشهوة، ولكنه خاضع بمقتضى العقد الليبرالي، أي: الحرية الفردية، في مقابل الولاء المطلق للدولة.
لعل أشد خصوم الدولة الليبرالية هي الديمقراطية، فالدولة الليبرالية قائمة على تحكم النخبة المؤهلة الفاضلة الأرستقراطية في مؤسسات الدولة والشعب المكون من أفراد من الدرجات الدنيا، همهم بطونهم وفروجهم، يكفيهم منزل يؤويهم، وطعام يشبعهم، وسيارة يركبونها، وعطل يسيحون فيها طلبا للراحة من العمل، في حركة دائرية لا تنتهي إلا بموت “المواطن“، فالمواطن البهيمة غير مؤهل لمعرفة مصالحه، وينوب عنه في ذلك المواطن..الأعلى.
ترجع أصول هذه الليبرالية اللئيمة إلى أفلاطون، وتمر عبر روسو، وتصل إلى ستيوارت مل، تطورت فكريا، ثم وجدت لها محلا على موائد النخب المالية والسياسية، فحولتها إلى مشروع استغلال للثروات العالمية لمصالحها، ورمت الفتات لأصحابها، ولا تزال تفعل، لأن النخبة لها الحق في ذلك، سواء كان ذلك ببياض جلدها، أو بريق ذهبها.
ليس الإنسان الحر هو المتضرر المباشر الوحيد، بل إن الدولة الليبرالية تسعى منذ زمن بدافع الفكرة إلى ما دعا إليه طائفة من المفكرين الليبراليين قديما، السعي إلى السيطرة على الطبيعة، واستهلاكها، بل واستنزافها، لفائدة النخبة الليبرالية، ولأجل استدامة وجود الدولة الليبرالية، ولذلك مهما ادعت حرصها على البيئة وسلامتها، فبقدر ما يحفظ لها حقها فيها، ولا يهمها بعد ذلك حيوان ولا نبات ولا ماء.
لقد وصلت أحلام الليبرالية اليوم إلى قناعة تفيد أن هذا الإنسان المواطن لا يمكن استئمانه على “الدولة“، فمهما بالغت في شد حبل العقد بينها وبينه، إلا أنه مهما استمر على إنسانيته، فإن شعلة الحرية الحقيقية لا تزال كامنة في وعيه، بل إن هذا الإنسان غير كاف ولا مؤهل ليناسب تطلعات الدولة الليبرالية ولا اقتصادها ولا تقدمها التكنلوجي، ولذلك سعت ولا تزال وستسعى لتطوير هذا الإنسان، وتحويله إلى “شيء” أفضل وأقوى، ليكون أداؤه أحسن، وولاؤه أكبر، وليس شيء يحسن في هذا إلا أن ينتقل هذا الإنسان إلى حالة “ما بعد الإنسان“، وهو ما يحاوله “العلم” الخاضع لتوجيهات ورغبات، بل وأوامر “الدولة الليبرالية“، وصناعة الإنسان الآلة هو المشروع الأكبر اليوم للدولة الليبرالية في العالم.
يؤول حال العالم اليوم إلى إفساد للبيئة والمحيط، في الغابات والمياه والهواء، إلى إفساد القيم والأخلاق والدين، إلى إفساد الإنسان، وربما آل الأمر إلى سيطرت “الآلة” عليه، فحينما تحرر الإنسان من قيمه، وقع في عبودية شهوته، ثم في عبودية دولته، وكل هذا تلازم حاصل وواقع، والدولة الليبرالية تحرص على بقائه، لأنه ضامن لاستمرارها.
يتحدث الناس عن ثورات الجياع، وثورات الشعوب، ولا ينتبهون لثورات أكبر وأشد، وهي ثورات النخب الأرستقراطية، فهي ثورات هادئة، متمكنة، ومستمرة، لا تكاد تمسع لها همسا، لأنها حاصلة في “الأعلى“، حيث السرية والتكتم، هدفها الإبقاء على “ميزة” التحكم والتملك، هي ثورات على الشعوب المحكومة نفسها، ثورات يهدف أصحابها إلى استدامة الفوارق الطبقية، والتباعد الاجتماعي بين النخب العليا وسكان الضواحي، ولأجل ذلك تسخر كل مؤسسات الدولة لخدمة بقائها وأمنها.
هناك فجوة طبقية مستدامة تتغلغل في المجتمع الأمريكي الحديث، وثقها الباحثون الأمريكيون مثل تشارلز موراي وروبرت بوتنام كما يقول باتريك دينين صاحب “لماذا فشلت الليبرالية“، واضح جواب سؤاله الآن، وعلى لسانه: «لقد فشلت الليبرالية لأنها قد نجحت».
هكذا قرأت الكتاب، وهذا بعض ما استخرجته، وما بقي أكثر، وما خفي أعظم، وأستأذن القارئ المغربي لأسأله، ماذا سيحدث لو انتقلنا من دولة إسلامية مغربية، إلى دولة ليبرالية…على الطريقة الأمريكية؟