القلب يصوم ويصلي، فيقع عليه من أثر العبادات الظاهرة بعمل الجوارح آثار باطنة لعبادات سرية قد تخفى عن المعاينة لكن أجرها قد يبلغ من الثواب ما لن تبلغه الجوارح من ظاهر الأعمال.
والصوم باعتباره عبادة خاصة لها أجر مخصوص، تميل بطبيعتها إلى السر منه إلى الجهر، وهي تتفق مع العبادات القلبية والنفسية أكثر، لأنها تشمل مظاهر الكتمان والاتصال المباشر بين الله والعبد دون أي مظهر حسي مُعايَن، يؤيد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: “كل عملِ ابنِ آدمَ يُضاعفُ الحسنةَ عشرةَ أمثالها إلى سبعمائةِ ضعفٍ، قال اللهُ عزَّ وجلَّ: إلا الصومُ، فإنَّهُ لي وأنا أجزي بهِ، يَدَعُ شهوتَه وطعامَه من أجلي” مسلم: 1151.
قصد النية: وغايتها التهيئة والاستعداد وعقد العزم قصد بلوغ غاية التحقق، والقلب محل تهيئها ومنبع تشكلها وكما أن الصيام عبادة مشروطة بالنية وهي ركن واجب في تحقق ثوابه فإنه يصدق عليه بذلك ما يصدق على سائر العبادات من جهة النية والقصد اقتضاء وما يترتب عنهما جزاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “مَن لم يُبيِّتِ الصِّيامَ من اللَّيلِ فلا صيامَ لَهُ” ابن حزم، المحلى: 6/162.
وجاء من الشهوات: قلب الإنسان محل لنوازع الشهوة وبوادر اللذة، والشباب في هذا العصر مبتلى بشرور الفتن، وعواقب النزوات خصوصا الغير متزوج منه، فالقلب محرك ودافع والجوارح أدوات فعل وتحقيق، لذلك أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصوم كوسيلة للتحصين والوقاية لإخماد ما يتقد في القلب من نار الشهوات ولهيب النزوات، “يا معشرَ الشبابِ، منِ استَطاع الباءَةَ فلْيتزوَّجْ، فإنه أغضُّ للبصَرِ وأحصَنُ للفَرْجِ، ومَن لم يستَطِعْ فعليه بالصَّومِ، فإنه له وِجاء” البخاري:5066، “..فالصوم يقمع الشهوة.. التي سببها الشيطان.. لأنه يُضيّق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان، وتنكسر سَورة الشهوة والغضب..” محمد بن مبارك حسن الطواش، أسرار وفوائد الصيام، ص: 22.
تضييق على الشيطان: ” خرجَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يَقْلِبُ أهلَه إلى منزلِه فلَقِيَ رجلينِ فقال لهما إنَّها صفيةُ فقالا سبحانَ اللهِ يا رسولَ اللهِ فقال إنَّ الشيطانَ يجري من ابنِ آدمَ مَجْرَى الدمِ وإني خشيتُ أن يَقْذِفَ الشيطانُ في قلوبِكما شيئًا فتَهْلَكا” عارضة الأحوذي: 3/103.
فالقلب مضخة الدم واتصاله مباشر بالشرايين والعروق بل هو المؤثر فيها بالضغط انخفاضا وارتفاعا، وإحكام الربط على القلب بالصوم له أثر بالنتيجة على تضييق الشرايين الدموية في الجسم، هذا من ناحية فيزيولوجية طبية، أما من ناحية المعنى والدلالة، فإن الصوم طارد لوساوس الشيطان وهمزاته ولمزاته التي قد تقع في قلب العبد موقع شك أو ريبة أو سوء ظن، “فإن تناول الشهوات قد تُقسّي القلب وتُعميه، وتحول بين العبد وبين الذكر والفكر، وتستدعي الغفلة.. وخلو الباطن من الطعام والشراب ينوّر القلب.. ويُوجب رقّته.. ويُزيل قسوته.. ويُخلِيْه للذكر والفكر.. وكثرة الأكل توجب عكس ذلك..” محمد بن مبارك حسن الطواش، أسرار وفوائد الصيام، ص: 20.
دربة على الصبر: صبر على البلاء وعلى الاعتداء والأذى، وتربية على السمو في المعاملة والرقي في السلوك، ” ليس الصيامُ من الأكلِ والشربِ، إنما الصيامُ من اللَّغوِ والرفَثِ، فإن سابَّك أحدٌ أو جهِل عليك فقل: إني صائمٌ، إني صائمٌ لا تُسابِّ وأنت صائمٌ، فإن سابَّك أحدٌ فقل: إني صائمٌ، وإن كنتَ قائمًا فاجْلِسْ” صحيح الترغيب: 1082.
فالإحجام عن كل هذه السلوكات الباطنية السلبية من كثرة الكلام والسباب والجدال والغضب والشدة والفظاظة وغيره إنما هو من باب رشاد النفس واستقامة القلب بل وتقويمه على الصلاح وتطهيره من نوازع الشر وطبائع السوء فيتسامى عن التصرفات المنحطة والسلوكات الدنيئة.
دعوة للتقوى: وهي سبيل لتحقق مخافة الله تعالى وخشيته والوقوف عند حدوده ولزوم أوامره واجتناب نواهيه، “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” البقرة: 183، ومعلوم أن محل التقوى القلب، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “المسلمُ على المسلمِ حرامٌ دمُه وعِرْضُه ومالُه المسلمُ أخو المسلمِ لا يظلِمُه ولا يخذُلُه التقْوَى هاهُنَا وأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْقَلْبِ وحسْبِ امرئٍ منَ الشرِّ أنْ يحقِرَ أخاه المسْلِمَ” مجمع الزوائد: 8/188، فالحديث مكمل للآية من وجه أن الصيام، إذا صح، فإن فيه تحقق للتقوى ونماء لها تستقر في القلب ثم يسري أثرها في باقي الجسد، “والصيام بما فيه من استجابة لأوامر الله، وترك لمحبوبات النفوس ومطلوباتها بدون رقابة سوى الله، ينشئ التقوى في القلوب..” محمد بن مبارك حسن الطواش، أسرار وفوائد الصيام، ص: 5.
فرحة هنا وفرحة هناك: ولها طعم البهجة لحصول الثواب والأجر ومذاق السرور بأداء الفريضة ونيل الرضا من الله تعالى، والراضي عن عمله هو من يحس حقيقة إخلاصه في تأديته وتفانيه في إتقانه بلا شك، هذا في الدنيا أما في الآخرة فإحساس يفوق الوصف لأن النفس الدنيوية لن تبلغ درجة تذوق حقيقته إلا عند ذاك الموقف وهي أحوج ما تكون إلى بشرى من نظيره تزف لها تباشير الفوز العظيم.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “كل عملِ ابنِ آدمَ يُضاعفُ الحسنةَ عشرةَ أمثالها إلى سبعمائةِ ضعفٍ، قال اللهُ عزَّ وجلَّ: إلا الصومُ، فإنَّهُ لي وأنا أجزي بهِ، يَدَعُ شهوتَه وطعامَه من أجلي، للصائمِ فرحتانِ: فرحةٌ عند فطرِه، وفرحةٌ عند لقاءِ ربِّهِ، ولخُلوفٌ فيهِ أطيبُ عند اللهِ من ريحِ المسكِ ” سبق تخريجه.
نسألك اللهم أن تبلغنا أجر صيام رمضان وقيامه.
والحمد لله رب العالمين.