عنوان السلسلة حوارات فكرية قناديل لإنارة الطريق

 

..

 

المقدمة الشعارية للسلسلة

الذل والضعف وفساد العمل.. كل ذلك راجع إلى خلل الأفكار.

وطريق إصلاحها في الحوار..

وهو طريق طويل تحيط به ظلمات، تحتاج إلى قناديل تزيل غبشها، وتقود إلى الضياء الماثل في آخر النفق.

 

 

 

الحلقة 14:

 

مِن أين يمرّ الطريق؟

فروع مفاهيمية

1-الديمقراطية (2)

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

الديمقراطية ابنة الحضارة الأوروبية، ولدت ونشأت في ظل حضارة اليونان القديمة؛ ثم دخلت في حالة غيبوبة تامة خلال العصور الوسطى؛ ثم أعادت لها الثورة الفرنسية نشاطها، وبثت فيها روح الحياة من جديد؛ فانطلقت تغزو الفكر السياسي الأوروبي المتحرر من كل أثر ديني، بعد الهزيمة المدوية للكنيسة. ثم انتقلت الديمقراطية -في شقها النظري خصوصا– إلى شتى دول العالم التي غزتها الدول الأوروبية المستعمِرة. وكان العالم الإسلامي من بين الدول التي تأثرت بهذا الغزو الفكري.

وأنا حين أذكّر القارئ بأن الديمقراطية نتاج أوروبي خالص، لا أجعل ذلك وحده دليلا على التحريم كما يفعل بعض الجامدين على ظواهر النصوص، ولا مسوّغا للإباحة كما يصنع المنبهرون بالحضارة الغربية في أدق تفصيلاتها. ولكنني أضع الفكرة في إطارها المكاني الصحيح، لأنبّه على ضرورة الحذر عند محاولات التصدير المتسرعة، التي ترى في الفكرة منتَجا كونيا منفصلا عن أية خصوصية ثقافية أو حضارية!

ثم إن الفكرة ينبغي أن توضع في إطارها الزماني أيضا..

فقد مرت الديمقراطية بمحن خانقة في بعض مراحل انتشارها، كان من أخطرها ما وقع خلال الحرب العالمية الثانية، حين كادت رياح الفاشية والنازية تعصف بالديمقراطيات الأوروبية. ولم تنبع محنة الديمقراطية هنا من مجرد صراع مسلح –مهما تكن ضخامته– بينها وبين أعدائها الخارجيين، ولكن نبعت من أنها في الحقيقة حرب “من داخل” الجسد الديمقراطي! فالحزبان الفاشي (في إيطاليا) والنازي (في ألمانيا)، وصلا إلى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع، قبل أن يلغيا المسلسل الديمقراطي كله، وتكون كارثة الحرب الثانية!

ولأجل ذلك فالديمقراطية بعد الحرب العالمية الثانية، صارت أعظم التصاقا بالقيم المصاحِبة، وأكثر تمنّعا على التجرد منها. وهكذا صار السياسيون الأوروبيون لا يعتدون بالجانب الإجرائي البحت للديمقراطية، ويشترطون الالتزام بمجموعة من القيم، ما تزال منذ ذلك الحين في ازدياد وترسخ.

وملخص ما نستفيده من هذا الإطار الزماني والمكاني، أن الديمقراطية: فكر بشري، أوروبي، ملتزم بمرجعية قيمية معينة.

فهي فكر بشري اجتهادي، مرّ عبر التاريخ بتطورات وتغيرات؛ وهو لأجل ذلك قابل للنقاش والأخذ والرد، وليس مرجعية نهائية مكتملة، تحال عليها الإشكالات الفكرية والسياسية الكبرى.

وهي فكر أوروبي، نشأ وترعرع وهرِم في أوروبا، وانتشر خارجها بقوة الحديد والنار؛ وليس فكرا كونيا كما يراد لنا أن نعتقد! ولأنه نتاج أوروبي بحت، فإنه يحمل معه الثقافة الأوروبية العلمانية التي ترفض سلطان الدين على الحياة عموما، وعلى السياسة خصوصا.

وهي فكر ملتزم بمرجعية قيمية معينة (هي المرجعية العلمانية)، ولم يعد من المقبول عند فلاسفة الغرب اليوم أن ينتسب إلى الديمقراطية أي نظام سياسي لا يأخذ من الديمقراطية إلا الآليات الإجرائية، دون الالتزام بقيم العلمانية والحرية وحقوق الإنسان – كل ذلك بالمفهوم الغربي طبعا!

إن هذه العناصر الثلاثة، يجب استحضارها عند كل من يتحدث في العلاقة بين الديمقراطية والإسلام، وإغفالُها يؤدي إلى تسطيح مؤسف لقضيةٍ مركبة شديدة التعقيد مثل هذه.

إذا عُلم هذا، فلأذكّر هنا ببعض محاور النقد الأساسية التي توجّهها شريعة الإسلام إلى الفكر الديمقراطي. وسأكتفي بأهمها وأخطرها، مع أن أوجه التعارض كثيرة جدا عند التأمل والتحقيق.

المحور الأول: أن الديمقراطية تعطي للشعب –نظريا على الأقل- حق التشريع، مع أنه في الإسلام حق خالص لله تعالى. وقد جاء في الوحي ما لا يحصى من الأدلة على أن الحكم لله وحده، وأنه لا يجوز أن يُشرك به أحد في حكمه. كما قال تعالى: (إن الحكم إلا لله، أمر ألا تعبدوا إلا إياه، ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون)، وقال سبحانه: (أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون). والله سبحانه وتعالى خالق الخلق ورازقهم ومدبرهم، وهو أيضا يعلم ما يُصلحهم من الأحكام والتشريعات، كما قال عز وجل: (ألا له الخلق والأمر).

فالبشر لا يحلّ لهم منازعة الله في التشريع، سواء أكان ذلك من خلال شخص واحد مستبد، أو طائفة متحكّمة، أو عموم الشعب، إذ ليس المعيار في قلة المنازِع أو كثرته، ولكن في نفس المنازَعَة!

المحور الثاني: أن الديمقراطية متشبّعة بالكثير من القيم العلمانية المخالفة للإسلام، بسبب نشأتهما معا في سياق تاريخي واحد كما سبق بيانه. ولا يشكل على هذا المعنى حالة الديمقراطية الأثينية، فهي إرهاص “تجريبي” لحالة الديمقراطية العصرية التي يقع النقاش حولها. كما لا يشكل عليه قولي في المقال السابق “إن الديمقراطية لا عقيدة لها أي ليست لها حقيقة متجاوزة، لأن العلمانية في جوهرها لا تمتلك حقيقة متجاوزة ولا تعترف بذلك، بل هي نسبية وسائلة. فكونها مرجعية لنظام ما، إنما يعني أنه لا مرجعية له!

المحور الثالث: أن الديمقراطية تعتد بحكم الأكثرية مطلقا، وقد يكون الحق مع الأقلية، وتكون الأكثرية على باطل. وهذا مشاهد بكثرة ووضوح في الديمقراطيات الغربية، التي لا تزال القوانين المخالفة للفطرة الإنسانية – إذ لم يعد لهم دينٌ له نظر في التشريع -، تمرَّر فيها بموافقة الأكثرية من الشعب وممثليه البرلمانيين! كما أن الديمقراطية تسوّي – عند التصويت والترشيح – بين مَن فرّق الإسلام بينه؛ فتسوّي بين الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والعالم والجاهل، والخبير المحنّك وفارغ الذهن المبتدئ. وكل ذلك مما يأباه الشرع الإلهي.

المحور الرابع: أن الديمقراطية تقتضي نسبيةً تنسف كل المعايير الفكرية والأخلاقية، وتستتلزم ميوعة كاملة، مناقضة لأحكام الإسلام ذات الطبيعة المطلقة.

هذه المحاور –وغيرها كثير– تقتضي التروي الفكري والتأني المنهجي، قبل الإقدام على الإباحة المطلقة للديمقراطية، أو المساواة بينها وبين الشورى الإسلامية المشروعة.

والله الموفق.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *