السنـن الربانيـة طارق برغاني

أمضى الله تعالى في البشرية سننا ربانية، وهي في حقيقتها قوانين كونية ونواميس إلاهية ثابتة لا تتبدل ولا تتغير، تسري في الأمم والأقوام على مر التاريخ وهي ماضية إلى يوم القيامة، يقول الله تعالى: “فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً” فاطر: 43.
والقرآن الكريم زاخر بسرد نماذج واقعية من هذه السنن التي مضت، كما يخبرنا بما هو آت في المستقبل الغيبي قياسا على ما مضى من تلك النماذج، والتي صارت بالنسبة للمؤمن المتدبر فيها أصلا منهجيا وإطارا مرجعيا يحيله على الاعتبار والاحتراز من جهة؛ وإلى الاطمئنان والاستبشار من جهة أخرى، يقول الله تعالى: “قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ” آل عمران: 137-138.
هلاك الأمم
أقوام حادوا الله ورسله واستكبروا واغتروا بقوَّتهم وبما أوتوا من أسباب مادية وخلدوا إلى الملذات، وفشت فيهم المفاسد واستهانوا بالحجج التي أقامها الله تعالى عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وحمَلوا إنذار الرسل لهم بالعذاب محمل الاستهزاء والسخرية، حتى أتاهم عذاب الله فصاروا من الهالكين.
يقول الله تعالى: “وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةًۖ وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا” الفرقان:35-37. ويقول عز وجل: “وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمُهْلَكِهِم مَّوْعِدًا” الكهف: 59.
نجاة الأمم
بعد أن بلغوا من الإنكار والصد عن سبيل الله مبلغه، وأحدق بهم عذاب الله تعالى وصاروا في عداد الغابرين، فجأة تستجيب قلوبهم لنداء الإيمان فإذا هم خاضعون لله بالتوبة وطلب الغفران، فيرفع الله عنهم عذابه ويكشف عنهم نقمته: “فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ” يونس:98.
التمكين
سنة لا تبديل لها ولا تحويل، شهد لها القرآن والسنة والتاريخ، أصلها بلوغ درجة التقوى يقول الله تعالى: “قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ” الأعراف:128.
وتحقيق الإيمان الصادق والعمل الصالح، وهذا وعد رباني ثابت لا يماري فيه أحد، يقول الله تعالى: “وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ” النور:55.
وعاقبة ذلك كله نيل مكانة القيادة وبسط سلطان السيادة، يقول عز وجل: “وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا” الأعراف:137.
النصر والهزيمة
جرت سنة الله تعالى على أن مقياس النصر والهزيمة لا يكمن في كثرة العدد وقوة العدة وتطورها، وإن كان الأخذ بهذه الأسباب المادية والبشرية مطلوب ويعد من الأدوات المعينة على النصر، وإنما هو تابع لأصل أصيل وهو تحقيق الإيمان بالله تعالى، يقول الله تعالى: “فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ” الروم:47، والتمسك بدينه والثبات على أمره وطلب الشهادة في سبيله، يقول الله تعالى: “قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ” البقرة:249.
فمتى تحققت هذه المبادئ استتبعتها أسباب دونها في إنجاز النصر، بل أكثر من ذلك فإن الله تعالى يؤيد حزبه بالغلبة بتسخير جنود لا ترى، من ريح، يقول سبحانه: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا” الأحزاب:9.
وبالرعب، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “نصرتُ بالرعبِ على العدوِّ، وأُوتيتُ جوامِعَ الكلمِ، وبينما أنا نائمٌ أُتيتُ بمفاتيحَ خزائنِ الأرضِ، فوضِعتْ في يديَّ” مسلم:523.
وملائكة وتثبيت للقلوب والأقدام وغيرها، يقول عز وجل: “إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ” الأنفال:12، وفي غزوة بدر تأتي البشارة بالمدد من عند الله تعالى بعد أن ألح النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء ربه، يقول صلى الله عليه وسلم: “أبشِر يا أبا بكرٍ أتاكَ نصرُ اللَّهِ؛ هذا جِبريلُ آخذٌ بعَنانِ فرسِهِ يقودُهُ علَى ثَنايا النَّقعِ” فقه السيرة:227 (إسناده حسن).
التدافع
خلَق الله تعالى الخير والشر والحق والباطل والطيب والخبيث، والتدافع بين كل نقيضين منها سنة من سنن الله تعالى في خلقه، فلا يرتفع واحد على الآخر إلا آذن الله تعالى بظهور الثاني عليه، والغلبة في الأخير والكلمة العليا في الحسم هي كلمة الله تعالى، والله غالب على أمره.
يقول الله تعالى: “وَلَوْلَا دفاعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ” البقرة:251، لأن إحقاق الحق وإزهاق الباطل، هو أصل صلاح الدين والدنيا، وهذا ناموس كوني سنَّه الحق سبحانه في خلقه، يقول الله تعالى: “بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُو زَاهِقٌۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ” الأنبياء:18.
اليسر بعد العسر
التصديق بالفرج بعد الضيق، والاستبشار بالخير بعد البلاء من شروط حسن الظن بالله تعالى وعدم القنوط من رحمته، والمؤمن مطالب بالصبر على تحمل المشقة وانتظار اليسر بعد العسر، يقول الله تعالى: “أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ” آل عمران:142 لأن ذلك داخل في دائرة الإيمان، وهو سنة الرسل والأنبياء، والقرآن الكريم يبين ذلك، يقول عز وجل: “وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ” البقرة:155.
جزاء الظالم
كثيرة هي نماذج الطغاة والجبابرة الذين عتوا في الأرض فسادا، وشواهد ذلك من القرآن والسنة والتاريخ عديدة، والنهاية المُهلكة لهؤلاء الظالمين عبرة لمن عاصرهم ولمن جاء بعدهم، وعذابهم في الآخرة أليم شديد، يقول الله تعالى: “فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ” العنكبوت:40.
اللهم إنا نرجو رحمتك ونخاف عذابك، فأمِّنَّا في الدنيا والآخرة.
والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *