ما أن تتلى آية من كتاب الله تعالى أو حديث من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم على مائدة حوار أو نقاش، ويحاول مسلم الاستدلال بهما على حكم شرعي، وبيان مراد الله تعالى في المسألة موضوع النقاش، حتى ينتفض العلماني ويكرر ما قرره سلفه غير الصالح؛ ويقول: {إن هذا إلا أساطير الأولين}، وأن هذه النصوص نزلت في زمن مضى، وعجلة التاريخ تسير إلى الأمام، والواقع بمستجداته يفرض علينا أن نتخلى عن مسلمات عقدية؛ ومحكمات دينية؛ وأحكام تشريعية في القرآن لم تعد تناسب هذا الزمان..
فبإزاء استخدامهم للدعوة إلى إعادة قراءة النص الديني قراءة جديدة توافق أهواءهم، فاللادينيون يوظفون سلاح “التاريخانية” لتعطيل العمل بالنصوص الشرعية وجعلها معزولة عن الحياة، ومنه قطع الطريق على كل مخالف ومنعه من توظيف الأدلة الشرعية وإنزالها على الواقع.
والتاريخانية هي نظرة فلسفية اتخذها فلاسفة الغرب معول هدم ونقض للنصوص الدينية، وهي تعني عند اللادينيين -باختصار- ارتباط النص باللحظة التاريخية التي صدر فيها، و”ألا تتعالى النصوص على الزمان والمكان”؛ كما أن الأحكام المضمنة في تلك النصوص لا تنسحب إطلاقا على أزمنة أخرى مختلفة.
والإسلام نفسه عندهم غير خارج عن هذا السياق، فهو يخضع لمناهج التحليل التاريخي، وهو “لا يختلف عن المسيحية في كونه يقع ضمن الإطار المعرفي للقرون الوسطى” كما قال الهالك محمد أركون في كتابه “نقد العقل الديني” ص:194، ومنهم من يتفلسف ويعتبر نصوص القرآن والسنة “ثابتة في المنطوق متغيرة في المفهوم”.
ولما سُئل أركون عن طريقة التَّعامل مع النُّصوص الواضحة غير المحتملة؛ كقوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} النساء:11، قال: «في مثل هذه الحالة لا يمكن فعل أي شيء إلا إعادة طرح مسألة التفسير القرآني؛ لا يمكننا أن نستمرَّ في قبول ألا يكون للمرأة قسمةٌ عادلة!! فعندما يستحيل تكيُّفُ النَّصِّ مع العالم الحالي ينبغي العملُ على تغييره» (حوار أجرته معه المجلة الفرنسية: «لونوفيل أبسرفاتور» (Nouvel Observateur) فبراير 1986).
وطرحهم هذا؛ أو لنقل شبهاتهم تُعَدُّ في الواقع “تغافُلاً عن حقيقة الشريعة وحقيقة الإنسان؛ فلا الشريعة ثابتة في كل أحوالها، ولا الإنسان متغيِّر في كل شؤونه، فالشريعة منها ما هو ثابت محكَم، وهو: القطعيات ومواضِعُ الإجماع، ومنها ما هو متغيِّر نِسْبِيٌّ، وهو: الظنيَّات وموارد الاجتهاد؛ بل إن منها منطقة العفو التي أحالت فيها إلى التجربة والمصلحة، في إطار من قواعد الشرع الكلية ومقاصده العامة” صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان؛ د.صلاح الصاوي.
وحتى يكون الاجتهاد منضبطا لا تعبث به الأهواء والمصالح؛ فلا يتعرض له في الإسلام إلا من توفرت فيه الأهلية، وشروط دقيقة سطرها أرباب الأصول في كتبهم، وذلك حتى ينظر المجتهد في المستجدات وقضايا الواقع، ويحرر انطلاقا من قواعد الشريعة وأصولها ما يصلح أحوال المجتمع المسلم.
هذا هو الاجتهاد عند علماء المسلمين؛ أما عند اللادينيين فهو مخالف تماما لهذا المفهوم، كما أن تصورهم للنصوص الدينية مخالف أيضا لما قرره علماء المسلمين قاطبة، فمرجعيتهم المادية تأبى على النصوص الشرعية أن تكون معصومة وثابتة وشاملة، والنظريات الفلسفية التي استعملتها مدرسة النقد التاريخي لهدم النصرانية المحرفة في الغرب؛ هي نفسها التي يعتمدها هؤلاء المقلدة والمتشبعون بما لم يعطوا؛ للوصول إلى هدم مرجعية الكتاب والسنة -زعموا-.
ويكفي القارئ الكريم أن يعلم أن من بين واضعي نظرية تاريخانية النصوص يهوديٌّ يدعى “باروخ سبينوزا”، كان -بحكم عقيدته- أعنف المهاجمين للدين، فقد طبق المنهج العقلي على “الكتاب المقدس” نفسه، ووضع الأسس التي قامت عليها “مدرسة النقد التاريخي” التي ترى أنه يجب أن تدرس الكتب الدينية على النمط نفسه الذي تدرس به الأسانيد التاريخية، أي على أساس أنها تراث بشري وليست وحياً إلهيا وجب الخضوع والإذعان له.
وحسب ما أورده الدكتور أحمد إدريس الطعان في كتابه المفيد جدا (العلمانيون والقرآن الكريم)، فإن تعاليم القرآن الكريم عند القائلين بالتاريخانية مرتبطة بظروف تاريخية، والعقائد الإسلامية وصياغتها؛ والتفسير القرآني؛ والسنة النبوية؛ والشريعة؛ ذات طابع تاريخي أيضا.
وخلص الدكتور سعيد الغامدي في كتابه: (الانحراف العقدي عند زعماء الحداثة) أن: ما يسمى “تاريخية النص” أو “التفسير التاريخي للنص” ينطوي في الحقيقة على عدة مضامين هي:
أ- نفي حقيقة الوحي.
ب- جعل الوحي أسطورة من الأساطير.
ج- التحرر من سلطة الوحي وأحكامه.
د- إلغاء أسبقية المعنى، وهذا يعني القضاء على النص تماما.
هـ- أنه لا حقيقة ثابتة للنص، بل إن كان فيه حقيقة فهي نسبية، زمنية.
و- نفي القداسة عن النص، ونقله إلى حقل المناقشة والنقد الهادم، والدراسات اللغوية البنيوية والاجتماعية المادية المختلفة.
ز- القول ببشرية النص وأنه ليس من وحي الله تعالى، فلا عصمة له، ولا حقيقة لعصمة المبلغ. اهـ.
هكذا يمكننا أن نصل إلى طريقة تصور وفهم العلمانيين لنصوص الكتاب العزيز والسنة المطهرة، ولأحكام شرعية يعلنون العداء لها كل فرصة وحين، من قبيل الإرث وتعدد الزوجات وقوامة الرجل والحدود الشرعية..؛ وغيرها كثير. فهي بالنسبة لهم متعلقة بالماضي ولا تصلح لزمننا الحالي، ولسان حالهم يقول: (نحن أعلم من الله، وبما تصلح به أحوال الخلق).
هذا زعمهم؛ لكن ما نص عليه كتاب الله الحكيم وسنة رسوله الكريم أن نصوص الشريعة (قرآنا وسنة) إلهية المصدر، وقد تكفل الله تعالى بحفظها من التحريف بخلاف الشرائع الأخرى، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، وهي حجة الله تعالى على خلقه إلى قيام الساعة، قال سبحانه: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}، كما أنها مصلحة لكل زمان ومكان، قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} طه:123-126، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنِّي تركت فيكم ما إنِ اعتصمتم به فلن تضلُّوا بعدي أبداً؛ كتاب الله وسُنَّة نبيه) رواه الحاكم.
فالعصمة والنجاة في التمسك بوصية الله وامتثال أمره ونهيه، {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} النور، والمحاولات الحثيثة والخطوات المحسوبة لهدم الدين وإعادة رسوم الجاهلية لن تؤتي أكلها.
فلا “تاريخانية” في الإسلام.. والشريعة مُصلِحة لكل زمان ومكان.