حتى أكون منصفا: في ليلة اليوم الذي كتبت فيه الحلقة السابقة وأرسلتها للنشر، حوالي الساعة الحادية عشر ليلا، سمعت أصوات بعض الشباب في حديقة الإقامة، فخرجت للتأكد من الأمر. بعد أخذ ورد مع أحد أبناء الإقامة الذي كان جالسا كعادته، منذ أزيد من سنة، برفقة صديقيه، سبق أن أثار أحدهما الشغب داخل الاقامة مرتين، قال لي: لن نخرج من هنا، واذهب حيث شئت.
لم يكن أمامي خيار إلا التوجه إلى مركز الأمن المكلف بالحراسة، بعد جلوسي في السيارة ركبت على لوحة أرقام الهاتف الرقم 19، وكررت المحاولة ثلاث مرات، فتح الخط، فذكرت لرجل الأمن ما حدث، وأخبرته أن هناك مجموعة من الأشخاص يجلسون بأحد مرائب السيارات التابع للاقامة محدثين ازعاجا للسكان في وقت متأخر من الليل، وذلك منذ أزيد من ثماني سنوات، حسب ما علمت، تفاجأ وقال لي: سنرسل سيارة الشرطة حالا، وهو ما حصل بالفعل، ولما حضر رجلا الشرطة إلى عين المكان، كان كل منهما يحمل عصا كبيرة الحجم، ساعتها ازداد احترامي وتقديري أكثر لكل الرجال الشرفاء الذي يضحون بالغالي والنفيس من أجل حماية أمن المواطن والوطن.
لم نجد أحدا من الشباب الذين كانوا يجلسون داخل الاقامة أو خارجها، اختفى الجميع. أسال الله أن لا يحرمنا نعمة الأمن، وأن يحفظ جميع المسؤولين عن الأمن، الذين يبدون ما في جهدهم لأداء هذه المهمة الشريفة والشاقة، وأن يجازيهم عنا خير الجزاء.
يجب علينا كمواطنين النظر إلى هؤلاء الناس باحترام وتقدير وشكر؛ لأنهم يسهرون كي ننام نحن في أمن وأمان، ويتعبون كي نرتاح. قد يقول قائل: هناك تقصير في بعض الأماكن، فأقول: نعم هناك تقصير من بعض المسؤولين والعاملين في الأمن، كما هو الحال في جميع الوظائف، لكنني أتكلم عن الحالة العامة للبلد، ولا أنظر إلى الأمور بعين واحدة لا ترى إلا الأخطاء، فما هو إيجابي أكثر مما هو سلبي: مادام المواطن يسير في أغلب شوارع المملكة دون أن يتعرض لأذى، وما دمت تقف أمام شباك البنك لأخذ النقود دون خوف، وما دمت تنام في بيتك آمنا مع أهلك… فهذا كله لم يأتي دون مجهودات وتضحيات. نسأل الله المزيد.
كما أنه خلال هذا الأسبوع، وبالضبط يوم الثلاثاء، جاء السيد قائد المقاطعة برفقة القوات المساعدة وتمت إزالة سياج وباب، أقيما بشكل غير قانوني، وهذا يعتبر مساندة كبيرة من الجهات المختصة، فجزى الله خيرا كل من سعى سعيا حسنا.
إضافة إلى هؤلاء، هناك أناس من جنود، ودرك، وقوات مساعدة… وأطباء، وممرضين تركوا ذويهم وأبناءهم وأزواجهم، وسكنوا الصحاري والجبال والغابات، من أجل حماية وخدمة المواطن والوطن، وتجدهم يؤدون عملهم بإخاص، وهؤلاء هم سبب بقاء واستقرار الوطن، هؤلاء هم المواطنون الشرفاء المخلصون، الذين يحفظ الله بهم الوطن. فما الفرق بيننا وبينهم؟ هم مواطنون ونحن كذلك، هم بشر ونحن كذلك، لذا يجب علينا جميعا أن نكون مجندين لخدمة الصالح العام، بصدق وإخلاص، لأننا نركب نفس السفينة، فإذا نجونا، نجونا جميعا، وإذا لا قدر الله حدث العكس، سندفع الثمن جميعا بلا استثناء، ولن تنفع الاغنياء أموالهم، سيخسرون الكثير والكثير، لماذا إذا لا نضحي بالقليل من الجهد والمال كي نربح وطنا آمنا مستقرا، وبلدا متقدما عزيزا كريما، نعيش فيه نحن وأبناؤنا من بعدنا بفخر واعتزاز؟ ولنا عبرة في ما يحدث في العديد من الدول العربية، فهل من معتبر؟
سأعطي مثالا بسيطا لعله يقرب الصورة للقارئ: في المؤسسات التعليمية خلال الامتحانات هناك رجال تعليم، هداهم الله، يتسامحون مع التلاميذ الذين يغشون، وأنا أرى أن هذا أمر خطير على الفرد والمجتمع؛ لأن الذي يغش في الامتحان ويجد من يتساهل معه، سيبقى تلميذا فاشلا، وسيغش في جميع جوانب الحياة وفي جميع المسؤوليات التي سيتحملها. في المقابل هناك رجال ونساء تعليم لا يتسامحون في ذلك، الشيء الذي يدفع التلاميذ للقيام بواجبهم للحصول على نقط جيدة، وبالتالي يتعلم الاعتماد على نفسه ويحقق التفوق، ويكون انسانا ناجحا في حياته. تصور لو أن جميع رجال ونساء التعليم يتسامحون ويتساهلون في حراسة التلاميذ خلال الامتحانات، هل سيبقى هناك تلميذ يراجع دروسه، ما دام يعرف أنه يمكنه الحصول على نقطة أفضل دون أن يبذل أي جهد، وإن لم يفعل فسيجد أن هناك تلاميذ حصلوا على نقطة أعلى من نقطته وهم لم يراجعوا ولو حرفا؟
نعم هناك تلاميذ يحصلون على شواهد الباكالورياعن طريق الغش !والدليل على ذلك أنه خلال حراسة امتحانات الباكالوريا، أضبط بعض التلاميذ وهو يغش، وقد ملأ عدة صفحات بالكتابة، وعندما أزيل هاتفه المحمول الذي كان يستعمله للغش بالطرق المبتكرة، وأسحب منه ورقة الإجابة وأعطيه ورقة أخرى، لا يكتب عليها ولو حرفا واحدا!
خلافا لما نسمعه، هناك رجال ونساء تعليم أمناء وأوفياء لمهنتهم ودينهم ووطنهم، لذلك رغم ما يتعرضون له من تهديدات، واستفزازات من طرف التلاميذ، لا يسمحون لهم بالغش. أعرف أحدهم، يقول لمن يحذره من التعرض لاعتداءات التلاميذ: لو قدر الله أني مت فسأموت شهيدا، لأني أديت واجبي! الله أكبر! بمثل هؤلاء تحفظ الأوطان وتصان الكرامة، وتحفظ الأمانة. من الذي أجبره على القيام بواجبه؟ إنه إيمانه العميق بأن الإنسان لن يصيبه إلا ماكتب الله له، إنه حبه لله وللوطن.
هؤلاء المواطنون هم سر بقاء هذا الوطن، بسبب هؤلاء يتخرج الأطباء والمهندسون… والموظفون الشرافاء، وإلا ضاع العباد، وخربت البلاد. وقس على هؤلاء أمثالهم من المواطنين الشرفاء، الأحرار في جميع الوظائف، الذين يقومون بواجبهم متحدين الصعاب والعقبات والتهديدات. هؤلاء هم الذين يصدق عليهم قول الله تعالى: “من المومنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه” رجال لا يبيعون كرامتهم، ولا يخونون الأمانة، ولو كان الثمن حياتهم!
بمثل هؤلاء ظل المغرب عبر تاريخه بلدا له مكانته بين الأمم، مرفوع الرأس عبر الزمن، فما لنا تخاذلنا عن نصرته، فطمع فينا من منا تعلموا الكرامة، وأخذوا العلوم والحكم.