لو سلمنا جدلا بأن البركة عبارة عن قوة سيالة متدفقة تدفق الماء من النبع، بحيث إنها تسري من شيوخ إلى مريدين! أو من صالحين أحياء كانوا أو أمواتا إلى طلابها، فكيف تسري إلى من تسري إليهم أولا وأصحابها على قيد الحياة؟ ثم كيف تسري إلى من تسري إليهم ثانيا وأصحابها مقبورون على أضرحتهم قباب تمييزا لهم عن بقية الموتى من المسلمين؟ ثم كيف نتأكد من كونها بالفعل قد سرت ثالثا من مرشد إلى مسترشد صوفي بعينه، كان هذا المرشد من الأحياء أو أصبح رقما ضمن أرقام لائحة المتوفين؟
فإن كان العباس بن المختار البودشيشي -على سبيل المثال- شيخا لولده حمزة، فكيف سرت بركته منه إليه؟ وما الدليل على أنها سرت منه إليه على وجه اليقين؟
وإن كان نفس الرجل شيخا لعبد السلام ياسين؛ فهل سرت منه البركة إليه، كما سرت منه إلى ولده قبل رحيله سنة 1972م. ولو لم يدرك بعد ياسين حينئذ رشده الصوفي! بدليل أن شيخه أمره بملازمة ابنه وخليفته حمزة كشيخ وارث لسر والده؟ أم إن السر سوف يسري إلى ياسين من حمزة الذي تكفل -نيابة عن والده- بتربيته وتعليمه ومده بالبركة التي لا يستطيع بدونها أن يتحول في يوم من الأيام إلى شيخ أو إلى مرشد؟ إذ المحروم من بركة شيخه ومن رضاه غير مؤهل أبدا لمنح بركته لأي مريد من مريديه ولو قامت القيامة! كما تخبرنا الثقافة الطرقية الصوفية بهذه القناعة؟
ثم كيف يصبح المحروم من بركة شيخه وولي نعمته مرشدا من جهة؟ وكيف له بمنحها لمريديه المفترضين من جهة ثانية؟ وإلا فهل فاقد الشيء قادر على إفادة غيره به؟ مما يعني أن البركة ضرورية لأي مريد أو لأي مسترشد. إنها بمثابة شهادة تمكن حاملها من خوض تجربة توجيه الخلق إلى الحق؟
ونذكر أن ياسين كان يرتدي لثلاث سنوات كاملة (1972م-1975م) عباءة شيخه حمزة وعمامته، باعتراف من حمزة نفسه وباعتراف من ياسين نفسه حين يقول: “وأذكر نعمة الله علي (أية نعمة؟) في الملإ لأنه وهبني بعد وفاة شيخي (= العباس) منذ ثلاث سنوات ما يقصده المريدون من الصحبة (وماذا يقصدون منها؟). وكان رحمه الله أوصاني قبل وفاته أن ألزم ابنه وخلفه من بعده فلزمت (= نعم ما فعلت!). وعاصرت منذ تسع سنوات نشأة الانحراف عند الصوفية الصادقين إخواني (= وعلى رأسهم شيخك حمزة!). وعرفت بذلك كيف يدخل إلى أصحاب الزوايا حب الدنيا وكراهية الموت”!
مما يعني بلغة الطرقيين أن ياسين خرج من صفوف إخوانه البودشيشيين خالي الوفاض! ولو ادعى أنه خرج وفي حوزته -كما قال- ما يطلبه المريدون من الصحبةّ، إنه الرضى والبركة مجسدة في الحقيقة التي لا توجد -كما يدعي- لدى غير الصوفية!
فلو اقتنع شيخه العباس بأنه أدرك نضجه الطرقي وأصبح مؤهلا لاستقبال الأسرار والعلوم اللدنية متوجة بالبركة التي من المفروض أن يغدقها عليه، لمكنه من إذن مكتوب يعلن فيه رضاه عنه، وأهليته لتحمل مسؤولية المربي الصوفي الذي يتقن كيفية توجيه مريديه إلى عملتي التخلي والتحلي، كعنوان للتصوف الأخلاقي في البداية، وكعنوان لما يقتضيه في النهاية تصوف الحقائق من خطوات، بدونها لن تتأتى له هو شخصيا قبل أتباعه فرص الكشف والاطلاع أو المشاهدة كما توفرت للغزالي الذي عبر عنها في (إحياء علوم الدين). مما حمل فقهاء المغرب والأندلس على إحراقه كاستنكار منهم لما ورد فيه من مقالات شاذة عن الإسلام ومتناقضة معه!
وبما أن القطيعة حاصلة بين ياسين وبين شيخه حمزة، فقد بتنا مقتنعين بأنه لم يتلق الرضى والبركة والأسرار من شيخيه كليهما! مما يدل على أنه في الحقيقة لا شيخ له. وفي مثله يقول ابن عطاء الله السكندري في “لطائف المنن”: “من لم يكن له أستاذ (= شيخ) يصله بسلسة الأتباع، ويكشف له عن قلبه القناع، فهو في هذا لقيط لا أب له! دعي لا نسب له!” ثم يقول: “من أخذ الطريق على غير شيخه، كان على غير دين”!!!
وقال عبد الوهاب الشعراني في”الأنوار القدسية”: “من شأن المريد أن لا يقول لشيخه قط: لم؟ فقد أجمع الأشياخ على أن كل مريد قال لشيخه لم؟ لا يفلح في الطريق”!
وبما أن ياسين لم ينضج صوفيا -كما قلنا قبله- مما جعل شيخه الأول يحيله على ابنه وخليفته كي يرعاه ويوجهه ويرشده ويباركه تدريجيا إلى حين استكماله لنضجه. وبما أنه خاصمه وفارقه إذ قال له بكل وضوح: “لم”! كما هو بين من كلامه المتقدم، فإنه إذن لا شيخ له! ومن لا شيخ له في الطريق -يقول ابن عطاء الله- فهو “لقيط لا أب له! دعي لا نسب له”! بل إن من ابتكر طريقة صوفية من عنده أو أخذها “على غير شيخه كان على غير دين”! وهذا بالتأكيد ليس من كلامنا. فعن أي شيخ إذن أخذ ياسين طريقته الصوفية التي وظفها على أتباعه؟ إنه لم يأخذها من شيخيه المذكورين لغياب ثلاثة شروط ضرورية هي: نيل رضاهما وبركتهما وإذنهما!
هذا كله إن نحن قبلنا بالمفهوم الصوفي الضلالي المبتدع للبركة. أما ونحن بمفهومها كما ورد في الكتاب والسنة مرتبطون، فمن حقنا أن نتساءل عن إمكان انتقالها من شخص إلى آخر، إذ لدينا أكثر من دليل على أن لكل مسلم نصيبه منها. والكلام هنا عن المعنوية أو الروحية لا عن المادية المجسمة في الواقع كثروات بكافة أنواعها وأشكالها؟ كيف تمر المعنوية منها إذن إلى الأغيار كي ينتفعوا بها؟ هل تمر كما تمر بمعناها الضلالي؟ أم إنها تمر بكيفيات يقبلها منطق الدين، ومنطق الواقع، ومنطق العادة أو التجربة؟
إن مرورها أو استفادة المحتاج إليها منها؛ يتم بطرق متعددة، من بينها هذه التي نقدمها موجزين:
1- شيخ مدرس عالم يمد طلابه كتابيا أو شفاهيا بما من الله عليه من بركاته، نقصد من مقدار علمه الغزير، أو من تفقهه في الدين. خاصة وأن المعارف عبارة عن مصابيح منيرة وضاءة، إن خلت منها الأذهان، ضعفت قدرة أصحاب هذه الأذهان عن الفهم والتقصي والوقوف على حقائق الأشياء، إلا أنه كلما تضاعف عدد المصابيح في الأذهان (وتضاعفها بركة)، أصبح أصحابها مؤهلين للاشتراك في التوجيه والتدريس والنصح والإرشاد.
2- الإكثار من قراءة مؤلفات العلماء والفقهاء والمحدثين والمفسرين والأصوليين، وإن لم يحصل شرف مقابلتهم لأي قارئ لما كتبوه أو ألفوه. إذ إنهم لا شك سوف يضيفون إلى ما اشتعل في أذهانهم من مصابيح مصابيح غيرها كبركة هي زيادة وكثرة ووفرة.
3- دعاء الشيخ أو المربي أو أي كان لأخيه المسلم في المقام أو في الترحال. فقد يستغفر المسلم لأخيه وقد يدعو له بالبركة، نقصد الزيادة في رزقه أو الزيادة في علمه، أو في تحسين أخلاقه. وقد تقدم أن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: “اللهم بارك لنا في ثمرنا وبارك لنا في مدينتنا…” الحديث.
4- كما يدعو الأحياء للأحياء، يدعو الأحياء للأموات، والعكس مردود لنصوص نقلية من جملتها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج”. الحديث. مما يدل على أن الميت في حاجة إلى دعاء الأحياء له. خاصة وأن كتابه أو سجله لن تضاف إليه أية بركة إلا في الحالات التي ذكرها المختار بقوله صلى الله عليه وسلم: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث. صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له”.
ومع ذلك يصر المبتدعون على أن بعض الموتى ينفعون الأحياء! تماما كما كانوا ينفعونهم في الدنيا! وتساؤلنا الملح هنا هو:
إلى أي حد تصبح عنده هذه المقولة مقبولة؟ نقصد نفع الميت لآلاف الزوار المتهافتين على ضريحه تهافت الذباب على الطعام؟
وما الدليل النقلي والعقلي والتجريبي على صحة هذا الضلال المبين؟