إن من أهم سمات منهج السلف الصالح العناية بالعلم فهو ميراث الأنبياء وحلية الأولياء به يُعرَف حقُّ الله تعالى على عباده وتُعرَف الأحكام، ويفرق بين الحلال والحرام، وهو الباعث على الإحسان، وأصلٌ لاستقامة الانسان، وأفضل مكتسب، وأشرف منتسب، وأنفس ذخيرة تُقتَنى، وأطيب ثمرة تُجتَنى، ووسيلة لكلِّ الفضائل، وعصمة من الرذائل.
لهذا فقد اعتنى سلفنا الصالح بتنشئة أطفالهم على العلم الصحيح والبناء المعرفي الصريح فكان التعلم والتعليم جزء من بناء شخصية أطفالهم منذ نعومة أضافرهم كما قال تعالى عن نبيه يحيى: “يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً” مريم:12.
قال ابن كثير -رحمه الله-: “أي الفهم والعلم والجد والعزم، والإقبال على الخير، والإكباب عليه، والاجتهاد فيه وهو صغير حدث السن” تفسير ابن كثير 4-535
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: “مَن قرأ القرآن قبل أن يحتلم فهو ممَّن أوتي الحكم صبيًّا” الآداب الشرعية لابن مفلح 1/244.
وقال الحسن البصري -رحمه الله-: “قدموا إلينا أحداثكم فإنهم أفرغ قلوبا وأحفظ لما سمعوا” الجامع لأخلاق الراوي وأداب السامع 1/245.
ذلك لأن التعلم في سن مبكرة مما يثبت في الذهن ويبقى مع صاحبه وإن تقدم به السن كما قال الشاعر:
أراني نسيت ما تعلمت في الكبر ***** ولست بناس ما تعلمت في الصغر
وما العلم إلا بالتعلم في الصبا ***** وما الحلم إلا بالتحلم في الكبر
وما العلم بعد الشيب إلا تعسف ***** إذا كل قلب المرء والسمع والبصر
ولو فلق القلب المعلم في الصبا ***** لأبصر فيه العلم كالنقش في الحجر
لهذا نجد اعتناءهم بتعليم الأطفال بطرق شتى وسبل عدة، فمنها الدعاء لهم كما في دعائه صلى الله عليه وسلم لابن عباس- رضي الله عنهما- بقوله: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ” رواه أحمد في مسنده رقم (2764 ) وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر.
بالإضافة إلى تشجيعهم على تحصيل العلم وطلبه فهذا الحسن بن علي -رضي الله عنهما- كان يقول لبنيه وبني أخته: “تعلموا فإنكم صغار قوم اليوم تكونون كبارهم غدا فمن لم يحفظ منكم فليكتب”. الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص29.
وقال أبو إسحاق الإلبيري الأندلسي -رحمه الله- ناصحا ولده:
أبـا بـكـرٍ دَعَوْتُكَ لو أَجَبتا إلـى مـا فيه حَظُّكَ إن عَقَلْتا
إلـى عـلـمٍ تكونُ به إماماً مُـطاعاً إن نَهَيتَ وإنْ أَمَرْتَا
وتـجلو ما بعينك مِنْ عَشَاها وتَـهْـديكَ السبيلَ إذا ضَلَلْتَا
وتَـحملُ مِنهُ في نادِيكَ تاجاً ويـكسوكَ الجمالَ إذا اغتربتا
يَـنَـالُـكَ نَفعُهُ ما دُمْتَ حَيا ويَـبـقى ذُخْرُهُ لكَ إنْ ذَهَبتا
وأول ما كانوا يبدؤون به في تعليم الأطفال هو تحفيظهم كتاب الله تعالى وقد بوب البخاري في صحيحه “باب تعليم الصبيان القران” وأسند عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: “توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين وقد قرأت المحكم” رواه البخاري برقم 4748.
يقول ابن خلدون -رحمه الله-: “اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار من شعائر الدين، أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم، لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن وبعض متون الأحاديث. وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعده من الملكات. وسبب ذلك أن تعليم الصغر أشد رسوخاً وهو أصل لما بعده، لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات. وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حال ما ينبني عليه”. المقدمة 4/ 1239.
وقد أكدت الدراسات الحديثة أن حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة يساعد على تعزيز المكونات المعرفية من خلال الآثار اللغوية للكلمات العربية التي تعزز مهارة القراءة والنطق لدى الطفل وتوسع مداركه العقلية والثقافية.
كما كانوا يعلمونهم ما يلزمهم من فرائض دينهم فعن الربيع بن سَبْرَةَ عن أبيه سَبْرَةَ -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
“مُرُوا الصَّبِيِّ بِالصَّلَاةِ إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ، وَإِذَا بَلَغَ عَشْر سِنِينَ فَاضْرِبُوهُ عَلَيْهَا”
رواه أبوداود في السنن رقم( 494) وصححه الألباني صحيح أبي داود رقم:508.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: “كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن” أخرجه مسلم رقم:404.
ومن أنواع اعتناء السلف بتعليم الأطفال إحضارهم مجالس العلم والعلماء.
فعَنْ ابْنِ عَبَّاس -رضي الله عنهما- قَالَ: “كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ، فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ: لِمَ تُدْخِلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ مَنْ قَدْ عَلِمْتُمْ، فَدَعَاهُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَأَدْخَلَهُ مَعَهُمْ، فَمَا رُئِيتُ أَنَّهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إِلَّا لِيُرِيَهُمْ، قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: “إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ” النصر:1 فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا، وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ لِي: أَكَذَاكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقُلْتُ: لا، قَالَ: فَمَا تَقُولُ، قُلْتُ: هُو أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ لَهُ، قَالَ: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَذَلِكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا، فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَقُولُ”. رواه البخاري رقم( 4613).
كما كان السلف الصالح يحرصون على تعليم أبنائهم اللغة العربية السليمة ويؤدبونهم على الخطأ فيها فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- “أنه كان يضرب ولده على اللحن”. واللحن هو الخطأ في الإعراب. رواه البخاري في «الأدب المفرد». باب الضرب على اللحن رقم:880 وصحح إسناده الألباني في «صحيح الأدب المفرد» رقم:676.
بالإضافة إلى تعليمهم العلوم الشرعية كانوا يعلمونهم العلوم واللغات الأخرى.
فعَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ أَبَاهُ زَيْدًا أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، قَالَ زَيْدٌ: ذُهِبَ بِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُعْجِبَ بِي، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا غُلَامٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، مَعَهُ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ بِضْعَ عَشْرَةَ سُورَةً، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: “يَا زَيْدُ، تَعَلَّمْ لِي كِتَابَ يَهُودَ، فَإِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي” قَالَ زَيْدٌ: فَتَعَلَّمْتُ كِتَابَهُمْ، مَا مَرَّتْ بِي خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حَتَّى حَذَقْتُهُ وَكُنْتُ أَقْرَأُ لَهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ، وَأُجِيبُ عَنْهُ إِذَا كَتَبَ”. رواه أحمد في مسنده رقم21079 وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم:187.
هكذا نجد أن منهج السلف في تعليم أبنائهم يتميز بالرصانة والتكامل في جميع حيثياته فحري بمن أخذ به أن ينشئ جيلا متعلما متقنا لكل المجالات الدينية والدنيوية ليكون سببا في الأخذ بالأمة إلى طريق العز والسيادة والتمكين والريادة.