أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقيها ذ.طارق الحمودي

الحمد لله أما بعد، فصحيح أن أبا بكر رضي الله عنه كان قليل الرواية ، بل وقليل الفتيا، لكنه كان مسددا في الفهم، قويا في الاستنباط، وهو أمر لاحظه الصحابة رضي الله عنه في مواضع لا يحسن التصرف فيها إلا فقيه بكل ما في الكلمة من معنى.
كان الأخذ بفقه أبي بكر وأيضا عمر منهجا مسلوكا ظاهرا عند السلف، ومن ذلك قول عبيد الله بن أبي يزيد: “كان ابن عباس رضي الله عنه إذا سئل عن شيء فكان في كتاب الله قال به، فإن لم يكن في كتاب الله وكان من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيء قال به، فإن لم يكن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيء قال بما قال به أبو بكر وعمر، فإن لم يكن لأبي بكر وعمر فيه شيء قال برأيه”. ولم يكن ذلك عن رأي واجتهاد، بل كانوا في هذا ملتزمين بتوجيهات قرآنية ونبوية، إلى درجة أن استدل ابن عباس بقوله تعالى: [وشاورهم في الأمر] ، ويفسره بقوله: “أبو بكر وعمر”. وهذا يدل على أن هذا التوجه لم يكن مدنيا خالصا كما قد يظن بعض الناس، بل هو حالة علمية عامة في السلف، فابن عباس من فقهاء الصحابة المكيين!
لقد كان تقدم علم أبي بكر عند الصحابة أمرا محسوما فيه، وقد تيقنوه من النبي صلى الله عليه وسلم حينما قص عليهم رؤيا رآها فقالوا له: “هذا علم أعطاكه الله حتى إذا تملَّأت منه، فضلت فضلة، فأعطيتها أبا بكر، فقال: قد صدقتم” .
ولذلك كانت مخالفة أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم عندهم أمرا مستبعدا، حتى روى ابن عبد البر عن الأوزاعي قال: كان مكحول يتوضأ مما مست النار حتى لقي عطاء بن أبي رباح فأخبره عن جابر بن عبد الله أن أبا بكر أكل ذراعا أو كتفا ثم صلى ولم يتوضأ، فقيل له: أتركت الوضوء؟ فقال: “لأن يقع أبو بكر من السماء فيتقطع، أحب إليه من أن يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم” . وقد أشار الصلابي إلى أنه في “الجملة لا يعرف لأبي بكر مسألة في الشريعة غلط فيها” .
كان أبو بكر يسلك في فقهه وقضاياه وتصرفاته منهجا راقيا في الأخذ بالوحي وما اتفق عليه أهل العلم والإيمان، فقد أخرج البيهقي وغيره كأبي القاسم البغوي وأبي عبيد بسند صحيح عن ميمون بن مهران قال: “كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه أمر نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى بينهم، وإن علمه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به، وإن لم يعلم خرج فسأل المسلمين عن السنة، فإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم واستشارهم”، فاستحق أن يقول فيه عمر بن الخطاب: “كان أعلم مني وأوقر” . وأن يقول فيه أبو سعيد الخدري: “كان أبو بكر أعلمنا” ، ويعلق ابن بطال المالكي على هذا فيقول: “وفيه أن أبا بكر أعلم الصحابة، لأن أبا سعيد شهد له بذلك بحضرة جماعتهم، ولم ينكر ذلك أحد”.
قال السيوطي: “ومن الدلائل على أنه أعلم الصحابة حديث صلح الحديبية حيث سأل عمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك الصلح، وقال: علامَ نعطي الدَّنية في ديننا؟ فأجابه النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم ذهب إلى أبي بكر فسأله عما سأل رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فأجابه كما أجابه النبي -عليه الصلاة والسلام- سواء بسواء. أخرجه البخاري” .
وقال: “كان أعلمهم بالسنة، كلما رجع إليه الصحابة في غير موضع يبرز عليهم بنقل سنن عن النبي صلى الله عليه وسلم يحفظها هو ويستحضرها عند الحاجة إليها، ليست عندهم، وكيف لا يكون كذلك وقد واظب على صحبة الرسول عليه الصلاة والسلام من أول البعثة إلى الوفاة! وهو مع ذلك من أذكى عباد الله وأعقلهم” .
وربما انفرد أبو بكر ببعض السنن عنهم، كما هو حاله مع حديث: “إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة”. قال ابن زنجويه: “وهذه سنة تفرد بها الصديق من بين المهاجرين والأنصار، رجعوا إليه فيها” . ومثله حديث دفن الأنبياء حيث قبضت أرواحهم.
وليس هذا خاصا بهذين الحديثين، فقد كان له ما ليس عند غيره، ولذلك قال محمد بن سيرين فيما حكاه عنه ابن عون: “كانوا يرون أن الرجل الواحد يعلم من العلم ما لا يعلمه الناس أجمعون”، قال: “فكأنه رأى أني أنكرت فقال: إني أراك تنكر ما أقول، أليس أبو بكر كان يعلم ما لا يعلم الناس؟!”. وسبب هذا طبيعة صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم فقد كان [ثاني اثنين] في هجرته، وسميره المخلص في ليله. (مجلة الصفوة العدد الثاني؛ بعنوان فقه أبي بكر رضي الله عنه في موطأ الإمام مالك).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *