منذ فجر الاستقلال بدا واضحا أن التوجه الجديد في البلاد ينحو منحى تهميش دور العلماء ليفسح المجال للسياسيين ليحتلوا المساحات التي شغلها الفقهاء والعلماء على طول أربعة عشرة قرنا هي عمر الإسلام في المغرب، وكان للاحتلال خلال مدة حكمه للبلاد دور بارز في محاربة مكانة العلماء السياسية والإدارية والاجتماعية، فقد كانوا المستشار الأمين للحكام، والمؤطر الفعلي لسلوك المسلمين، والحارس المخلص لأحكام الشريعة، حيث كان منهم القضاة والولاة والمعلمون ورجال الحسبة، فلم يكن للاحتلال بد من تهميشهم حتى يستقيم له الأمر في البلاد.
ومن ذلك ما وقع لرئيس مجلس الاستئناف الشرعي الأعلى الشيخ الهاشمي بن خضراء إبان حكم المولى يوسف حيث منعته سلطات الاحتلال من السفر مع السلطان إلى باريس، مخافة أن يحول دون قبوله لمخططاتها، فقد ذكر الشيخ العلامة محمد المكي الناصري في كتابه “فرنسا وسياستها البربرية في المغرب الأقصى” أن السلطان المولى يوسف استدعى القاضي الشيخ الهاشمي بن خضراء إلى مكتبه وأخبره بموقف الإقامة العامة قائلا: “إن الإقامة العامة أرادت بإبعادك عني أن لا تكون بجانبي أثناء قيامي بهذه الرحلة. لقد علمنا مقصودهم من عدم سفرك معنا، وهو خوفهم من استشارتك عندما يقدمون لي مطالب أخرى تخل بمصالح المغرب، مثلما فعلوه معي من قبل مرارا وتكرارا، فكنت تعزز موقفي من معارضة تلك المطالب ورفضها، بحكم الشرع المطاع، أمام ممثل الإقامة العامة وبمحضره، فيذهب خائبا”.
وبمجرد وفاة السلطان المشبوهة -والتي كانت عقب مرض ألمَّ به مباشرة بعد زيارته لفرنسا- كان أول قرار اتخذته السلطة الفرنسية هو عزل الشيخ ابن خضراء.
سقت هذه الواقعة التاريخية للدلالة على أن العلماء كانوا دائما هدفا للغازي وأعوانه من المنهزمين المنبهرين بثقافته، والخونة الذين لا يهمهم دين ولا وطن، وأن سبب استهدافهم دائما هو وظيفتهم الدينية التي يمارسونها على أساس مرجعيتهم الإسلامية، مما يقطع الطريق أمام الطامعين والفاسدين ويحول دون تحقيق مآربهم، وهذا واضح من تعليل السلطان لقرار الإقامة العامة.
إلا أنه للأسف الشديد وبضغط من الاحتلال وأعوانه استمرت سياسة المغرب بعد الاستقلال في إقصاء العلماء وتحجيم دورهم، هذا الإقصاء والتحجيم كان نتيجة ما أحدثه المحتل من نظم إدارية وقوانين وضعية ووظائف جديدة مستمدة من مرجعيته العلمانية، تلك النظم والقوانين والوظائف شكلت البديل عن الشريعة والفقه وعن الوظائف التي كان يمارس من خلالها العلماء دورهم في تسيير الدولة.
واليوم وبعد تسارع أحداث دولية ووطنية رجع الكثير من المغاربة المسلمين إلى البحث عن مصادر الخطاب الشرعي فظهرت تيارات إسلامية متعددة حلت قياداتها محل مؤسسات العلماء في تأطير الناس وتلبية حاجتهم إلى معرفة دينهم، في غياب شبه كامل لدور المسجد.
أمام هذه الوضعية تحاول الدولة أن تستعيد موقعها، وذلك من خلال خطة لإصلاح وإعادة هيكلة كل ما يتعلق بالشؤون الإسلامية، سيكون آخر إجراءاتها ما سمي بـ”ميثاق العلماء” والمرتقب الإعلان عنه في 12 من ربيع الأول الجاري.
هذا الميثاق الذي ينتظر منه أن يجيب عن كثير من الأسئلة ذات العلاقة بطبيعة الدور المرتقب للعلماء، أسئلة تطرحها صعوبة الوضعية الراهنة والتي يختلط فيها السياسي والإداري بالديني على حساب الأخير، بصورة يستحيل أن يقوم في ظلها العلماء بواجبهم الديني المنتظر منهم، الأمر الذي يهدد عملية الإصلاح برمتها.
لقد تطلب الإصلاح كما سبق أن صرح بذلك وزير الأوقاف أن تتساوق وظيفة العلماء مع متطلبات الممارسة السياسية، أي بمعنى أن يكون العلماء تابعين للسياسيين، أو على الأقل أن يجتنبوا الخوض في كل ما يمس الحياة العامة للناس، فلا دخل لهم في الفساد الناتج عن رخص بيع الخمور وتسويق القمار، والإقراض بالربا، التي تصدرها الإدارات العمومية، ولا شأن لهم بالمواد الإعلامية المخالفة للدين ومهرجانات السينما والأفلام، ولا علاقة لهم بقضايا الأمة كتحرير القدس وفلسطين، واحتلال العراق وباقي البلدان الإسلامية.
فعلى العالِم كي يتساوق مع المشروع السياسي أن لا يحفل بما تقوم به الإدارات والمؤسسات الإدارية لأن نظام الحسبة بالمعنى الإسلامي للكلمة قد ألغي منذ الاحتلال، ولم يتبق للعالم من وظائفه الدينية سوى الوعظ والإرشاد في الوقت الذي تنتج فيه المؤسسات الاقتصادية والإعلامية الفساد بكل أصنافه، باختصار شديد، على العلماء أن ينتجوا خطابا ينضبط بالحدود التي تضعها العلمانية للدين.
لقد أغفل المسؤولون عن الشأن الديني -أو تغافلوا- عن العوامل الأساسية التي ولدت الغلو والتطرف بين صفوف الشباب المغربي والمتمثلة بالأساس في عدم استقلالية العلماء وتهميش دورهم في المجتمع، والتضييق عليهم في مزاولة وظيفتهم.
إن أي توظيف سياسي لمؤسسات العلماء يخالف الوظيفة الدينية المناطة بهم شرعا، سيكون من أهم عوامل الفشل التي ستعجل بانهيار الإصلاح، لأن الوظيفة الشرعية للعلماء قائمة على امتثال أوامر الشرع، واجتناب نواهيه، في حين تبقى السياسة خصوصا القائمة على أسس علمانية تقوم على اعتبار المصلحة الدنيوية المادية، ولو تعارضت مع مقاصد الشرع ونصوصه، أما السياسة الشرعية في الإسلام فتقتضي أن يكون السياسي تبعا للعالم لا أن يدفع العالم والفقيه إلى إنتاج خطاب يلبي حاجيات السياسة والسياسيين.
إن المغاربة يتوقون إلى اليوم الذي يرجع المغرب المسلم إلى سابق عهده، مغرب العلم والشريعة، مغرب الفقه والدين، مغرب تنتفي من شوارعه مظاهر التغريب والعري الفاضح، وينعدم من إداراته الفساد والرشوة، مغرب يتبوأ فيه العلماء مكان الصدارة.
“فالعالم بمفهومه الديني في الإسلام قائدٌ، ميدانُه النفوس، وسلاحه الكتاب والسنة، وتفسيرهما العملي من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه، وعونه الأكبر على الانتصار في هذا الميدان أن ينسى نفسه، ويذوب في المعاني السامية التي جاء بها الإسلام، وأن يطرح حظوظها وشهواتها من الاعتبار، وأن يكون حظه من ميراث النبوة أن يزكي ويُعلِّم، وأن يقول الحق بلسانه، ويحققه بجوارحه، وأن ينصره إذا خذله الناس، وأن يجاهد في سبيله بكل ما آتاه الله من قوة.” (1)
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) من كلام العلامة البشير الإبراهيمي رحمه الله تعالى