بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أما بعد:
فقد كان بلغ مسامعي خبر رجل يتحدث في كثير من الصحابة رضي الله عنهم، ويتكلم في أحداث ضيقة المسالك من تاريخ الإسلام، فرأيت أن أنظر في كلام الرجل بمنظار العلم والتحقيق راجيا من الله تعالى أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، وسأجعل مبدأ ذلك مع قصة تعلق طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه بعائشة رضي الله عنها وإرادته الزواج منها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فكان أن رمى هذا الأستاذ طلحة بسهام اتهام وشبهة طاشت في الهواء، وكان أقربها إلى هدفه ثلاثة جمعتها فكسرتها بإذن الله تعالى.
وسبب طيشها هزالة المنهج العلمي النقدي الحديثي عند الرجل، وهشاشة في منهجية قراءة كتب الحديث والتاريخ، فالرجل يحدث بكل ما قرأ، ويروي كل ما وقعت عليه عينه مما يوافق قصدا في قلبه الله أعلم به، وهذا أوان كسر السهام والله المعين.
السهم الطائش الأول:
روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أن رجلا قال: لو قبض النبي صلى الله عليه وسلم، لتزوجت فلانة يعني عائشة: فأنزل الله تعالى: (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا).
قال معمر: سمعت أن هذا الرجل طلحة بن عبيد الله.
قلت: قتادة تابعي لم يحضر نزول الآية ولا القصة، فروايته مرسلة، وليس فيها تسمية الرجل بطلحة، وما فعل ذلك إلا معمر قائلا: (سمعت..!) فلم يذكر واسطته في ذلك، فروايته معضلة ضعيفة.
السهم الطائش الثاني
روى ابن أبي حاتم في تفسيره عن السدي، رضي الله عنه قال: (بلغنا أن طلحة بن عبيد الله، قال:”أيحجبنا محمد عن بنات عمنا، ويتزوج نساءنا من بعدنا ؟ لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده، فنزلت هذه الآية”.
قلت: هكذا رواها السدي بلاغا وبينه وبين زمن القصة مفاوز، فهي على هذا مرسلة أيضا، فإنه لم يذكر من أخبره بذلك، هذا إن صح ذلك عنه وإلا فليس ثَمَّ ذكر لإسناد ابن أبي حاتم إلى السدي كما في طبعة أسعد محمد الطيب، وهذا موجب للتوقف في روايته، والتوقف موجب حكمي للرد، فلا عبرة بهذه الرواية مطلقا.
السهم الطائش الثالث
روى ابن سعد في الطبقات: أخبرنا محمد بن عمر، حدثني عبد الله بن جعفر عن بن أبي عون عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم في قوله: وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا قال نزلت في طلحة بن عبيد الله لأنه قال: إذا توفي رسول الله تزوجت عائشة.
قلت: محمد بن عمر هو الواقدي وهو متروك الحديث، لا يحتج به ولا يعتبر، ورواية أبي بكر بن حزم معضلة فإنه كان في زمن عمر بن عبد العزيز وتوفي عام 120 للهجرة!!! والقصة وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فمن أين له ذلك إن صح عنه!؟ فالرواية ساقطة.
وعبد الله بن جعفر هو المخرمي وابن أبي عون هو عبد الواحد الدوسي.
هذا مبلغ الرجل من المعلومات..!! أما التحقيق فلا…ويظهر لي أن آفات الرجل في هذا كثيرة غفر الله لنا وله!
وقد أنكر العلماء هذا الذي نسب إلى طلحة رضي الله عنه، فقال ابن عطية في (المحرر الوجيز4/396): (وهذا عندي لا يصح على طلحة، الله عاصمه منه). وقال القرطبي(14/229/دار الكتب المصرية): (قال شيخنا الإمام أبو العباس: وقد حُكي هذا القول عن بعض فضلاء الصحابة وحاشاهم عن مثله، وإنما الكذب في نقله، وإنما يليق مثل هذا القول بالمنافقين الجهال).
ومثل هذا كثير في دعاوى الرجل، وهو مما يدل على سطحيته في معالجة الأخبار. وقد خبرت ذلك منه في كثير من دروسه وخطبه، فوجدت الرجل حاطب ليل، همه إثارة الشبه وبثها بأسلوب سخرية واستهزاء بالمخالف.
ولم يكتف الرجل برمي طلحة رضي الله عنه بسهام طائشة، بل تعدى ذلك إلى عائشة رضي الله عنها وأبي هريرة ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهم..يقتل القتيل ويتبع جنازته..ولست أعرف إلى الآن لم يفعل ذلك، وأرجو أن يكون جهلا فقط.. ولو اشتغل بكبار مشاكل العصر لكان له فيها غنية عن النبش في التاريخ دون مصباح كاشف ثم الانشغال بعرض ما يجده على شباب كثير منهم ليس له القدرة على تمييز الغث من السمين، فإن كان الرجل ممن يدعي أخذ العبر من التاريخ فليقرأه بمنهجية المؤرخين المحققين، ودع عنك مزاعمه الكثيرة والمتنوعة عن التحقيق العلمي والغوص والبحث المعمق، فليس للرجل من ذلك إلا كلام يعيده الكرة تلو الأخرى، وكان الأولى له أن يكف عن ذلك دون مغامرة ومقامرة، ولا عجب أن يوجد أمثال هؤلاء في زمن كثر فيه المتكلمون بلا بينة مقبولة، أو حجة معقولة…وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال) فليتق الله تعالى كل من أعجبه حديثه، فليس الأمر هينا، ويكفيك أخي في الله قوله تعالى: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) النور 14-18.
ولي وقفات أخرى معه إن شاء الله تعالى أبين فيها حقيقة منهج الرجل ومبلغه من التحقيق.