دعوى الحرية بين صدق الأصيل وحربائية الدخيل عبد المغيث موحد

لو قدر لك وكان بالإمكان أن تسأل كل علمانيي العالم عن كنزهم المفقود ومرادهم المنشود لأجابوك إجابة واحدة؛ لا يؤثر فيها بعد الشقة؛ ولا اختلاف اللسان؛ ولا تباين النحلة والملة؛ إنها: الحرية.. الحرية.. ولا غير.

والحقيقة أن هذا الاصطلاح قد سلب كإسم معناه، وهذا السلب لم يفضي إلى لبس أو إبهام أو فراغ، بل هذه الفوضى اللسانية قيدت اطلاقاتها تجليات المراد وتمثلات البغية. فليست الحرية في قاموس هؤلاء سوى العبثية والفوضى والاحتكار السلبي والتفلت الحائف الذي يأتي على سقف الفضيلة ومعالم الحياء وضوابط الشرع، فيحول حياة الإنعام إلى هيام الأنعام بل إلى ما هو أضل.
ولذلك تظل أزمة الحرية في محيط دعاتها من العلمانيين والحداثيين ومن على شاكلتهم هي أزمة لا تزال خانقة إلى الحد الذي يجثم معه المتشدقون بها على أنفاس الراغبين فيها على الحق والحقيقة، بل وتزداد الأزمة خنقا ويثقل الجثم ويشتد كلما تعلق الأمر بحرية اعتناق مبادئ الإسلام.
ولنوجه كلامنا قليلا ونقول بحرية اعتقاد الإسلام الصحيح، إذ في هذا المنعرج الخطير تتغير الأمور ويتنكر الديمقراطيون لديمقراطيتهم، ويخرج الحياديون عن صمتهم، ليظل اختيار المرء الحر الاستظلال بعقائد الإسلام والانتفاع بشرائعه والعيش في ظل فضيلته والنهل من معين كرامته شيء منكور ومطارد وعمل إرهابي مغرض تستهدفه وتتكالب عليه بكل جفوة القوى الحداثية المتحررة!!
ولا أدل على صحة ما نقول أن الأمة الإسلامية أمة المليار ونيف تعد بمثابة الاستثناء الذي تعيش أعداده الكبيرة أنواعا من القهر والاستضعاف وتتهددها بين الفينة والأخرى أعاصير الترهيب من تجويع ومحاصرة وحروب إبادة يستحر -تحت جحيم قاذفات قنابل الحرية الحضارية- الموت بالجملة، ناهيك عن الغربة التي صار معتنقوا منهج الإسلام القويم يعانونها حتى في دائرة الرماد الذي ولد وظل بعد استهلاله المبارك مخلصا لبؤرة الموقد الأول، ذلك الموقد النوراني الذي بقيت جدوته على العهد دون تبديل، تلهم المسلمين وتدفعهم صوب استلهام عرى الإيمان وتجسيد غيبياته في كل مناحي الحياة الطيبة لتجود على كلهم بالمدد الروحي والعون المادي كل في باب نفره ومجال تخصصه مما يحسن به الصنيع إلى وطنه مسقط الرأس وأمته تعلق القلب والروح.
غير أنها اليوم وباسم التمذهب والخصوصية وتدبير الحقل الديني يسعى البعض إلى قطع حبل المشيمة بين الأصل الأصيل والفرع المتفرع لتلتقي بإخلاص وفي الموعد وعلى الوعد أقلام العلمانيين المتسفلة في نقيصة المكر والتدليس، مناها خلق مسوغات لذلك القطع بعد حدوثه، وهي لا تنسى في تأسلمها القشيب أن تشد الرحال لشيوخ الخرافة من أجل أخد الورد والتبرك بالحضرة القطبية في إشارات رمزية لقطع الطريق على كل دعوى يمكن أن تزايد على إسلامية الفكرة العلمانية وإسلامية معتنقيها وليتأتى بعد هذا الإسلام الجديد والتسليم به دون أي شك أو نقد أو إنكار إطلاق عنان التهمة ولسان النبز والتحريف للوافد المشرقي الشريف وتتوحد الرؤية حول كون هذا الوافد والذي نعني به حصرا: المنهج السلفي؛ هو مرادف كل بال قد فاته الركب، ورجعي متخلف ظلامي ركيك معاد للعقل، مخاصم للفكر التجريبي، تتأرجح أصوله بين التقليدي والانتهازي، وتتناسل الأعمدة والمقالات والمصنفات المنكبة على تجديد ما بلي، وتحديث القديم وإلباسه جبة الحداثة السافرة القامة، الحاسرة الهامة.
فيتحدث البعض عن ضرورة القراءة العقلية لنصوص الوحي قراءة غايتها تطويع هذه النصوص في القالب الذي يسوغ معه القبول بالعديد من الظواهر المرضية التي كانت تعد عند سلفنا من الموبقات المخرجة من دائرة الملة..
قراءات عقلية غايتها تذويب هذه القشرة السميكة من القداسة الكسبية حسب الزعم، والتي أحاطها بعنف واستبداد الفكر السلفي حول هذه النصوص اللغوية بمنطق التجريد، فحال بينها وبين المجددينات الجدد الذين لا يرون في نصوص ديننا الحنيف إلا مجموعة نصوص تعيق تحرك الإنسان في دائرة إنسانيته، البديل الحقيقي عن إسلاميته، بل وتحول في أحيان كثيرة دون حصول متعته المنشودة التي هي عصب الحياة عند هؤلاء الراغبين في مشاعية العيش البهيمي، وتكذيبا لهذا الخرس وبهتا لدعواه نورد شهادة حق للدكتور عضو أكاديمية المملكة المغربية محمد عزيز الحبابي يقول في بعض منعرجاتها:
“إنه لإجحاف أن تلحق السلفية بعد الجاه والصولة الذل والقدحية؛ إنها وسيلة لا يزكيها المنطق ولا يبيحها التاريخ”.
هذه هي السلفية وهذا هو منهجها عند كل شريف عفيف انسلخ عن جلد النفعية وتجرد من ضيق المصلحية وتعافى من أن يكون “إمعة” وإنه لمن العار والشنار أن تنعت السلفية بالرجعية، ومن التجني أن ينعث عودها المحمود بأنه فرار إلى الماضي كملجئ للانكماش واختيار لحد لوأد المشروع التقدمي لهذه الأمة، فما العيب وهذه الأمة تعيش اليوم نكستها التاريخية وعضالها الأخلاقي أن يرجع جيل الخلف لخيرية قرن السلف بغية استثمار ما فيه من عزة وسؤدد، فيكون هذا العود الحتمي كمن يشذب الأغصان لتعود الحياة إلى الجذور، أو كمن آثر أن يصفي المجرى من رأس العين..
وما العيب أن تكون السلفية بعيدة عن التصور المدخون الذي يركنها في زاوية العنف والتطرف وسفك الدماء المعصومة هي تلك القراءة وذلك الانكباب الذي يصوب جهد المسلم المؤمن في الاتجاه الذي يكون فيه إستفراغ الجهد والوسع ليس في احتكار معرفة الأحكام ونخلها فقط؛ بل تتعدى هذا المحمود إلى ما هو أحمد، فتدعو إلى ضرورة إخراج المسطور التراثي إلى حيز المنظور المعاصر؛ على وفق الأمر والهدي؛ بما يكفل تحقيق النجدة وإثمار الثمرة المرجوة.
ولعل ذلك لن يأتي ولن يتأتى إلا عبر إيثار مسلك السلف الصالح في قراءة نصوص الدين، وربط هذه القراءة بمراد الله ورسوله دون غيرهما ونفخ الروح في ذلك التدين السلفي الذي لا تشوبه بدعة أو ضلالة ومن تم جعل هذا المنهج ومسلكه القويم هو المسبار والقياس العام الذي تطأ وحدته الوازنة اختيارا وقسرا أقدام سلوك وقيم المجتمع الإسلامي الحديث، ليحصل الكيل المستوفي لنصاب السلامة، وتعلو الرغبة في تحقيق تغيير ما بأنفسنا، والذي سيليه حتما تغيير الله لما بنا من ذل وهوان، وتبعية إلى عز وتحرر ورقي حضاري على شاكلة ما توفر عليه أسلافنا من استشراف لكل أعظم وأكمل، وبعض أحسن وأجمل، مصداقا لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *