1/ يا بُنيّ
من الأسئلة السّاذجة التي يطرحها بعض طلبة العلم على مشايخهم: ما رأيك في الشّيخ فلان والدّاعية علاّن! ..
وهو سؤال غيرُ دقيق ..بل هو سؤال مُغرِض يبحثُ عن زلاّت العلماء والدّعاة ليطير بها في الآفاق ..كحال جماعة المداخلة هداهم الله!
لذلك يا بنيّ فنحن لا نهتمّ بالأشخاص بل اهتمامنا بالحقّ الذي معهم، والأفكار التي ينشرونها في كتبهم، ويذيعونها في دروسهم ..فإذا سمعتَ شيئا أو قرأته ولم يستوعبه عقلك المحدود فاسأل عنه خبيرًا من أهل العلم الثّقات ..بطريقة مؤدّبة مملوءة بحسن الظّن بذلك الشيخ الذي تنقل فكرته وكلامه ..واجعل نصب عينيك دائمًا هذه القاعدة: لا عِصمة لأحد من البشر ما عدا الأنبياء والرّسل ..أما غيرهم فيصيبون ويخطئون.
وحين تكون بين يدي كتاب حاول ما استطعت أن تنسى الكاتب نسيانًا تامّا وتعامل مع المكتوب الذي أمامك لا غير، واحذر أن تتعامل مع كاتب لا تعرفه بظلم وجهل كحال أهل الأهواء والبدع الذين لا يقرؤون إلا لمن يعرفون من مشايخهم ..فلابن القيّم رحمه الله كلام جميل في هذا الباب أورده في آخر كتاب مدارج السّالكين على ما أذكر ..ذكرته في مقالتي أدب الاعتذار يجمل بك الرّجوع إليها وإليه ..وهناك رسالة قيّمة لا أجد لك مثلا لها في نضجها وفائدتها وجمال لغتها وبيانها للعلاّمة بكر بن عبد الله (أبو زيد) ..عنوانها: تصنيف النّاس بين الظّن واليقين! لُذْ بها لعلّ الله يدفع عنك ما ابتلي به هؤلاء القوم الذين نجم قرنهم واستفحل شرّهم في زماننا!
2 / يا بُنيّ
لا تكن ثرثارًا مِهْذَارًا مِتْلافًا لهدوء من يحيطون بك، وكن في المجالس كأنّ على رأسك الطّير، ولا تخُض مع الخائضين في كلّ ما يتناولونه من موضوعات تافهة كما هو حال كثير من البطّالين من أهل زماننا ..فإنّ الصّمت حكمة أطال العلماء والفلاسفة في مدحه وتبيين مزاياه ما لم يكن صمتًا عن باطل، وكما هو معلوم فالسّاكتُ عن الحقّ شيطان أخرسُ، كما أنّ النّاطق بالباطل شيطان ناطق ..وقد لا أتّفق مع القائل: إذا كان الكلام من فضّة فالسّكوت من ذهب! فإنّ هذه العبارة ليست على إطلاقها لاسيما في حقّ من وهبهم الله العلم! ..فهناك مواضع يحرم فيها الصّمت، وهناك مواضع يحرم فيها الكلام! ..واللّبيب الحكيم من يميّز بين ذلك ..فواصل بن عطاء المعتزلي كان رغم لثْغته فصيحا خطيبًا لسِنا ..وكان صموتًا! كما وصفه الذّهبي في السّير ..يعرف متى يتكلّم ويجادل عن بدعته والانتصار لها ..ولكن في غير ذلك يلتزم الصّمت ويلوذ به كسائر العباقرة والفلاسفة والعلماء ..ففضول الكلام لا يليق بمن كان ذا شأن وخَطر ..وهذا كلام ليس بجديد يا ولدي لكنّني أحببتُ تذكيرك به ..وإن شئت التّوسع فيه فعليك بكتاب (روضة العقلاء) لابن حبّان ففيه فصل عن الصّمت يشفي غليلك في هذه المسألة.. ولولا مخافة الإطالة والبعد عن المكتبة لسردت لك شيئا من أقوال أهل العلم والأدب والفكر! ..وعزائي أنّ ما لا يدرك كلّه لا يترك جُلّه ..وهذه مجرّد إشارات لعلّك تهتدي من خلالها إلى الطّريق الصّحيح الذي حاولت رسمه لك في هذه السّلسلة ..وفقك الله!
3 / يا بنيّ
الفرقُ بين الحاقد والنّاقد= النّاقدُ هو الذي لا يكون بينه وبين الكاتب سابق معرفة، فيقرأ النّص الأدبي قراءة متوازنة معتمدًا في ذلك على أدواته الفنيّة، غايته البناء لا الهدم، وهدفه دفع الكاتب إلى مستوى أفضل بأخلاق عالية وعبارة أنيقة لا طغيان فيها ولا غلو …أمّا الحاقد فهو الذي تكون بينه وبين الكاتب عداوة أو شنآن، فيأخذ النّص أخذ جبّار متعالم يبحث عن الهفوات والزّلات والهنات بِشَخْصَنَةٍ واضحة من خلال كلماته التي تنطق بالثّلب والغمز واللّمز واتّهام النّيات ..هدفه الإطاحة بالكاتب وإسقاطه من عيون محبّيه ومعجبيه ..لذلك أنصحك يا ولدي وأشدّد عليك في النّصيحة أن تجعل هذه المسألة نصب عينيك وأنت تطالع كتب النّقد وردود العلماء والأدباء والمفكّرين بعضهم على بعض ..حتى لا تتأثّر بكلامهم فتصبح بوقًا للحَقَدة من حيث لا تشعر ..واجعل منك على ذُكْر ما قاله الإمام البُلْقيني في كتابه محاسن الاصطلاح ص 176: “الانتهاض لمجرّد الاعتراض من جُملة الأمراض”!
4/ يا بنيّ
إيّاك والحسد يا ولدي فالحَسَدُ داءٌ عُضالٌ، ومَرَضٌ فتّاك، ابتُلي به كثير من النّاس، ليسَ في هذا الزمان فحسب، بل في سائر الأزمان، داءٌ إذا حلّ بالقلوب فإنّه يأتي على أخضرها ويابسها، صاحبهُ من أتعس خلقِ الله على الإطلاق، عذابُه عظيم، وتفكيره أليم، وعقيدتهُ هزيلة كنفسيته الأمّارة بالسّوء، خاصمَ قضاءَ الله وقدرَه، واتّهم الباري -عز وجل- في عدله، وأساء الأدب مع الشّرع المطهّر، وخالف الأنبياء والمرسلين وعبادَ الله الصّالحين، وشابه إبليس اللّعين..
هذا الحاسِدُ يا ولدي يتمنى في كلّ لحظة وحين زوالَ كُلّ نعمة أنعم الله بها على أحد من عباده، لا يهدأ له بال ولا يقرّ له قرار، فهو عدو لأناس وخصم لآخرين، لا لشيءٍ ذي بال إلا لأنهم يتمتّعون بأشياءَ ليس له منها إلا التّمني والتّشهي والحسدُ..ولله درّ الحسَد ما أعدلَه بدأ بصاحبه فقتله !
والحاسدُ لا يملك دواءً ناجعا لقلبه إلا ذلك اللسانَ السّليطَ الطويلَ الذي يسلق به المحسودَ.. كلما واتته الفرصة اهتبلَها لذمه وازدرائه واحتقاره وتنقّصه والكلام في عرضه والنّيل من كرامته…وصدق الشّاعر حين قال:
حَسَدُوا الفتى إذ لم ينالوا سعيَه …. فالنّاسُ أعداءٌ له وخصومُ
كضرائر الحسناء قُلن لوجهها …. حسـدًا وبغيا إنّه لذميمُ
ورذيلة الحسَدِ قَديمةٌ على …. الأرض قِدَمَ الإنسان نفسه
ما إن تكتملُ خصائصُ العظَمَة في نفْس، أو تتكاثر مواهبُ الله لدى إنسان حتّى ترى كلّ محدود أو منقوص يضيقُ بما رأى، ويطوي جوانحَه على غَضَبٍ مكتوم، ويعيشُ منغّصا لا يريحه إلاّ زوال النّعمة، وانطفاء العظمة، وتحقّق الإخفاق. كما يقول الشيخ محمد الغزالي.
قد جعلَ الله لكلّ ذنبٍ عقوبةً مُستقلّةً يتألّم بها المذنبُ عند حلول أجلها، فالشّاربُ للخمر يتألّم عند حلول المرض، والمقامرُ يتألّمُ يومَ نزول الفقر، والسّارقُ يتألّم يوم قطع يده، أمّا الحاسدُ فعقوبته دائمة، لا تفارقه ساعة واحدة على حدّ قول المنفلوطي !
وبالحسد تتكون السيئات والموبقات التي تهلك الرّجلَ إذا ما حلّت بساحته، كالغيبة والنّميمة، لأنّ الحاسد يغتاب وينمّ باستمرار لعله يُسقط محسودَه من أعين النّاس المعجبين به…
لذلك يقول القرني في كتابه لا تحزن: وسوفَ يبقى هذا الحاسدُ في حُرقة دائمة حتى يموتَ أو تذهبَ نِعَمُ النّاس عنهم. كلّ يُصالح إلا الحاسدُ فالصّلحُ معه أن تتخلّى عن نعم الله وتتنازل عن مواهبك، وتلغي خصائصك، ومناقبك، فإن فعلتَ ذلكَ فلعلّه يرضى على مضض، نعوذ بالله من شرّ حاسد إذا حسد، فإنّه يصبح كالثعبان الأسود السّام لا يقرّ قراره حتّى يفرغَ سُمّه في جسم بريء .
يقولُ ابنُ المقفع: ليَكُن ممّا تصرفُ به الأذى والعذاب عن نفسك ألا تكون حسُوداً. فإنّ الحسدَ خُلُقٌ لئيمٌ. ومن لؤمه أنّه موكّلٌ بالأدنى فالأدنى من الأقارب والأكفاء والمعارف والخلطاء والإخوان !