نقد موقف ابن رشد في تأويله للشريعة

نقد فكر الفيلسوف ابن رشد الحفيد
على ضوء الشرع والعقل والعلم -دراسة نقدية لكشف حقيقة فكر ابن رشد-

وثالثا إن قوله بأن حديث النزول هو من النوع الظاهر الذي يجب على أهل البرهان تأويله، هو قول غير صحيح، لأن حديث النزول هو حديث صحيح، يجب قبوله وفهمه فهما صحيحا انطلاقا من نصوص التنزيه التي هي قواعد أساسية في موضوع الصفات الإلهية. وذلك الحديث لا يتناقض مع تلك القواعد التنزيهية، وإنما يندرج فيها، وبها نضعه في مكانه الصحيح. وإثباتنا لحديث النزول لا يعني أننا ننظر إليه نظرتنا إلى حركات الإنسان من نزول وصعود وجلوس، فهذا كلام باطل شرعا وعقلا، وإنما ننظر إليه انطلاقا من قواعد التنزيه كقوله تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) سورة النحل: 74. فنزوله سبحانه نُثبته له بما يليق به، بلا تشبيه، ولا تجسيم، ولا تكييف، ولا تأويل، ولا تعطيل. ومثاله قوله تعالى: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) سورة الأعراف: 143، فالتجلي حدث فعلا، لكننا لا نعرف كيفيته ولا حقيقته، ولا يعلم ذلك إلا الله تعالى، لكن يجب علينا إثبات حدوثه، ونفوض كيفيته وحقيقته لعلام الغيوب سبحانه وتعالى. فحديث النزول من هذا القبيل يجب إثباته، وهو لا يتناقض مع الشرع الصحيح، ولا مع العقل الفطري الصريح. وأما زعم ابن رشد بأنه يتناقض مع العقل، فالأمر ليس كذلك، وإنما هو يتناقض مع العقل الأرسطي المشائي الرشدي، الذي لا وزن ولا اعتبار له في الميزان الصحيح القائم على النقل الصحيح والعقل الصريح، لأن ذلك العقل -أي الأرسطي المشائي- هو عقل مريض مُشوّه أفسدته الفلسفة الأرسطية المشائية بإلهياتها الوهمية الخرافية.
ورابعا إن قوله بأن حديث الجارية السوداء هو من الأحاديث التي يجب على أهل البرهان تأويلها، هو قول لا يصح، لأن هذا الحديث قد صحّ عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، ونصه الكامل هو أن صحابيا قال: (كانت لي جارية ترعى غنما لي قبل أحد والجوانية، فاطلعت ذات يوم فإذا الذيب [الذئب؟؟] قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون لكني صككتها صكة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك علي قلت يا رسول الله أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها فأتيته بها فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله قال أعتقها فإنها مؤمنة). فهو حديث صحيح وقاطع بأن الله تعالى في السماء، ولا يحتاج إلى تأويل رشدي، ولا إلى قول ابن رشد بأن الجارية لم تكن من أهل البرهان، لأن كلامه هذا هو رد لحديث رسول الله، وطعن فيه أيضا، وفيه تغليط وتلبيس على القراء، لأن الذي سألها أين الله؟، ووافقها على جوابها هو النبي -عليه الصلاة والسلام-، وهو لا يقول إلا حقا. وعليه فإنه لا يصح شرعا ولا عقلا الزعم بأن رسول الله فعل معها ذلك لأنها لم تكن من أهل البرهان. فهذا الزعم هو طعن في الله ورسوله، ومخالف لضروريات الشرع ومبادئه، فالنبي لا يقول إلا حقا، أرسله الله تعالى رحمة للعالمين ليُخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويُبين لهم أمر دينهم ودنياهم. ومن كانت هذه صفاته لا يُقال: أنه لم يكن صريحا ولا صادقا في كلامه مع الجارية. لأن هذا يعني أنه غشّها في سؤاله وموافقته لها، وهذا –بلا شك – زعم باطل، والقول به هو ضلال مبين، وجهل كبير.
وخامسا إنه يتبين من كلامه السابق أمران خطيران جدا، وذلك أنه -أي ابن رشد- زعم أن من الشرع ظاهر يجب على أهل البرهان تأويله، فإن تركوه وحملوه على ظاهره كان ذلك كفرا. فهذا الزعم يتضمن الأمرين الخطيرين، أولهما مفاده أن معظم المسلمين هم على كفر في موقفهم من ذلك النوع من النصوص، لأنهم ليسوا من أهل البرهان على حد زعمه، فإن حاولوا تأويله فهم على كفر أو على بدعة، لأنهم ليسوا أهلا لهذا التأويل، ولا لهم القدرة على ممارسته على حد زعمه.
وأما الأمر الثاني فيعني أن الله تعالى ورسوله قد أقرا معظم المسلمين على هذا الكفر المزعوم، عندما تركاهم على موقفهم من هذا النوع الظاهر من النصوص، ولم يُرشداهم إلى الطريق الصحيح في التعامل مع هذا النوع من الآيات. فهم على هذا الكفر المزعوم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولم يتخلّص منه إلا ابن رشد وأمثاله من المشائين أهل البرهان المزعوم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *