عنوان السلسلة حوارات فكرية قناديل لإنارة الطريق

 

المقدمة الشعارية للسلسلة

الذل والضعف وفساد العمل.. كل ذلك راجع إلى خلل الأفكار.

وطريق إصلاحها في الحوار..

وهو طريق طويل تحيط به ظلمات، تحتاج إلى قناديل تزيل غبشها، وتقود إلى الضياء الماثل في آخر النفق.

 

الحلقة 12:

مِن أين يمرّ الطريق؟

فروع مفاهيمية

1-العلمانية (2)

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

ما علاقة العلمانية بالأمة الإسلامية، وما حكم الإسلام فيها؟

لنقرر ابتداء أن العلمانية شأن غربي خالص.. نشأت في أوروبا وترعرعت فيها.. ثم حملتها الإمبريالية الغربية إلى العالم كله!

بل إن للعلمانية ارتباطا وثيقا بالنصرانية، أو قل بالبولسية تحديدا كما سبقت الإشارة إلى ذلك في الحلقة السابقة. فقد انفصل الدين عن الحياة في وقت مبكر بأوروبا، وأُخذت المسيحية عقيدة خالصة منفصلة عن الشريعة. وحين قامت العلمانية الحديثة، نبذت بقايا الدين المتناثرة في بعض مجالات الحياة بأوروبا، وأقصت الدين إقصاء تاما، من السياسة والاقتصاد والثقافة، بل من أفكار الناس وأحاسيسهم.

وهذا بخلاف ما عليه الأمر في بلادنا، فالإسلام ظل يحكم بلدان المسلمين، بعقائده وشرائعه قرونا من الزمان. فلذلك كان دخول العلمانية إلى قلب العالم الإسلامي أصعب وأغرب!

وقصةُ تسلل العلمانية إلى العالم الإسلامي طويلة ومعقدة، بدأت في القرن التاسع عشر الميلادي، وما تزال مستمرة إلى يوم الناس هذا. وأنبه على أمرين:

الأول: العلمانية فكرة شديدة التركيب، ومجال أثرها واسع جدا، يبدأ من السياسة ومؤسسات الدولة، حتى يصل إلى تصرفات الأفراد الشخصية، مرورا بما لا يحصى من الميادين العلمية والعملية. ولأجل ذلك، فإن ضبط آليات انتشارها، في المناحي الفكرية أو العملية، معقد جدا. فلا ينبغي الوقوع في الاختزال المخلّ الذي يقع من بعض مؤرخي دخول العلمانية إلى العالم الإسلامي، حين يسطّحون قضية انتشار العلمانية، ويختصرونها في أشخاص معينين، أو كتب مخصوصة، أو قادة سياسيين اتخذوا قرارات تساعد على نشر الفكر العلماني.

والثاني: من الصحيح أن دخول العلمانية إلى العالم الإسلامي كان بقوة الحديد والنار، ولكن لا ينبغي أن يحجب عنا ذلك حقيقة في غاية الخطورة، وهي أن ظروف العالم الإسلامي، الخارج لتوه من قرون مظلمة من الجمود والتخلف، كانت ملائمة لهذا الغزو الفكري، وكانت الأرض قابلة – القبولَ كله – لتزرع فيها البذرة الخبيثة.

ثم إن دخول العلمانية إلى العالم الإسلامي، لم يكن بوتيرة واحدة في البلاد الإسلامية كلها، فقد كانت عوامل المقاومة مختلفة، والظروف الداخلية متباينة.

حكم الشرع في العلمانية

العلمانية -كيفما عرّفتها، وعلى أي وجه قلّبتها- لا تجتمع مع الإسلام جملة وتفصيلا!

فالإسلام هو تمام الإذعان لحكم الله تعالى، والعلمانية تعني التمرد على نصوص الشريعة، والكفر بمرجعيتها في حياة الناس!

ويمكن إجمال أوجه مناقضة العلمانية للإسلام في المحاور التالية:

العلمانية شرك في الربوبية

فالربوبية إفراد الله تعالى بالأمر الكوني والشرعي، كما جمعهما الله تعالى في قوله: (ألا له الخلق والأمر).

فالأمر الكوني: هو الخلق والإيجاد، وتدبير الكون والتصرف فيه. والأمر الشرعي: هو الأمر والنهي والحلال والحرام وسائر الشرائع.

فالإقرار بالأمر الشرعي معناه أنه لا حلال إلا ما أحله الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله. والعلمانية تدّعي أن: لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين! فالشرائع الإلهية كلها لا عبرة بها، والمعتبر هو ما يتفق الناس عليه من القوانين، بانفصال تام عن الدين.

العلمانية شرك في الألوهية

توحيد الألوهية يشمل قسمين كبيرين:

  • توحيد الإرادة والقصد، وهو إفراد الله تعالى بالشعائر التعبدية.
  • توحيد الطاعة والاتباع، وهو إفراده سبحانه بكمال الطاعة والخضوع، وذلك بتحكيم شرعه.

قال تعالى: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين * قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين).

فالآية الأولى تشير إلى معنى الطاعة والاتباع، واللتان بعدها إلى توحيد الإرادة والقصد.

فتحكيم غير شرع الله تعالى شرك في العبادة.

ولذلك أجمع العلماء على عظيم جرم من يعطل شرع الله تعالى عن الحكم. وهذا ما تقصد إليه العلمانية.

العلمانية قدح في النبوة

وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل بدين كامل يشمل العقائد والشرائع. فواجب المسلمين تصديقه فيما أخبر به، واتباعه في ما أمر به أو نهى عنه.

يقول ابن القيم رحمه الله: (وأما الرضى بنبيه رسولا: فيتضمن كمال الانقياد له والتسليم المطلق إليه بحيث يكون أولى به من نفسه فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه ولا يحكم عليه غيره ولا يرضى بحكم غيره ألبتة..)([1]).

والعلمانية تترك الشرع الذي جاء به النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتخرجه من أين يكون له أدنى أثر على حياة الناس، في السياسة أو الاقتصاد أو غيرهما.

العلمانية قدح في عقد الإيمان

الإيمان -عند أهل السنة والجماعة- قول وعمل. فلا يكفي التصديق وحده دون الإذعان والانقياد بالقلب والجوارح.

والعلمانية حين تردّ شرع الله، تسقط ركن الانقياد من حقيقة الإيمان، فلا يبقى من الإيمان إلا التصديق الخبري الذي لا يكفي، فقد كان نظيره عند اليهود الذين كانوا يعلمون أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – صادق، وهم مع ذلك لا يرضون باتباعه!

 

ونلتقي في حلقة مقبلة -إن شاء الله- مع فرع مفاهيمي آخر.

والله الموفق.
—————-

[1]– مدارج السالكين: 2/172.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *