إنَّ تلك الآراء التي جعلت من العمل الأدبي صناعَةً خالية من !لحسِّ الإنساني، قد فصلت قيمته الذَّوقية كأداء وإنتاج عن قيمته داخل المنظومة الأخلاقِيَّة، وهذا مما يبعث التَّفكير في مستقبل أبناء هذه الأمَّة، بعد أن تحوَّل العمل الأدبي إلى فَنٍّ خالٍ من جوهره، ومفتقر إلى رسالة تبثُّ ثورة في أوصاله وتمدُّه بصبيب من دماء الحياة، تعصف بجذوره الميتة وتقتلعها من منبتها السيِّء، لتفسح المجال لميلاد أدب عربيٍّ أصيل، يخدم قضايا الأمَّة ويتناول دروسا ومواضيع تتصل بحياة الأفراد والجماعات، وذات قيمة أكبر من قيمة إخراج العمل الأدبي إخراجا فنِّيا يعتمد على براعة الأسلوب، بل عليه أن يَتمثَّلهما معًا في انسجام لتنشئة جيل متين اللُّغة وفصيحِ التَّعبير، يتحلَّى بالفضائل والأخلاق الرَّفيعة..
لهذا حين أَلَّف المؤرِّخ المصري شهاب الدين النويري تـ 733 ه كتاب «نهاية الأرب في فنون الأدب» ـ وهو من الموسوعات الأدبية الكبرى التي جمع فيها خلاصة التراث العربي في شقَّيه : الأدب والتاريخ ـ أَسْهب في التَّنويه بالأدب تقديما لكتابه، فأفاد وأجاد في إيصال المأرب من إيلاغ فنون الأدب إلى من كان هذا مطلبه ومقصده ومورده الأصفى، ليعرف به انتسابه الأصدق، فقال: <<فمن أَوْلى ما تدبَّجَت به الطروس[1] والدَّفاتر، ونطقت به ألسنة الأقلام عن أفواه المحابر، وأصدرته ذوو الأذهانِ السَّليمة، وانتسبت إليه ذوو الأنساب الكريمة، وجعله الكاتِب ذريعة يتوصل بها إلى بلوغ مقاصده، ومحجَّة لا يضل سالكها في مصادره وموارده : فنُّ الأدب الذي ما حَلَّ الكاتِب بِواديه، إلاَّ وعَمرت بَواديه، ولا ورد مشارعه[2]، إلا واسْتَعْذَبَ شرائعه[3]، ولا نزل بساحته إلا واتَّسعت له رحابها، ولا تأمَّل مشكلاته إلا وتبيَّنت له أسبابها >>[4] .
حتى أنه نبذ وراء ظهره ما كان يشغله عن طلب هذا الفنِّ العزيز، بعد أن عدل في بدايته عن الإلمامِ بناديه، وقد ذكر ما كان من أمره وأحوال جدِّه واجتهاده في تحصيل أسبابه، وبلوغ مبتغاه بالتعلُّق بأهدابه، والانتظام في سلك العاملين في ميدانه فقال: <<وكنت ممَّن عدَل في مباديه عن الإلمام بناديه، وجعل صناعة الكتابة فنَنَه[5] الذي يستظلُّ بوارفه، وفنَّه الذي جُمِع له فيه بين تليده وطارفه[6]، فعرفت جلِيَّها، وكشفت خفِيَّها …. فأعجزت المُناضِر والمناضل، وأتقنت موادَّ هذه الصِّناعة، وتاجرت فيها بأنفس بضاعة، ثم نبذتها وراء ظهري، وعزمت على تركها في سرِّي دون جهري، وسألت الله الغُنْية عنها، وتضرَّعت إليه فيما هو خير منها، ورغبت في صناعة الآداب، وتعلَّقت بأهدابها، وانتظمت في سلك أربابها، فرأيت غرضي لا يتمُّ بتلقِّيها من أفواه الفضلاء شفاها، وموردي منها لا يصفو ما لم أجرِّد العزم سفاها، فامتطيت جواد المطالعة، وركضت في ميدان المراجعة، حيث ذلَّ لي مركبها، وصفا لي مشرَبها، آثرت أن أجرِّد منها كتابا أستأنس به وأرجع إليه، وأعوِّل فيما يعرض لي من المهمَّات عليه..>> [7] .
الأدب .. يحمل رسالة فَنِّية وأخلاقِيَّة
إنَّ رسالة الأدب ينبغي أنْ تكون ذوقيَّة وفنيَّة، وأخلاقيَّة ودينِيَّة، ذات ثوابت متجذِّرة في ثقافة المجتمعات وتراثِها وتاريخ وجودها، تسعى إلى تنشئة جيل متين الخُلُق والدِّين، يتحَلَّى بمكارم الأخلاق، والنِّضال في ساحات الحياة، والدَّأْب على العمل والسَّعي للنُّهوض بالعلوم، والمعارف المُتَعدِّدة المشارب والفنون ..
وإنَّ رسالة الأدب ينبغي أن تزرع في قلوب أبنائها الشُّعورَ بالمَسؤولِيَّة التي تُحَتِّم عليهم أن يَتجشَّموا الصِّعاب، ويأمنوا على أنفسهم مصارِعَ االفِتَن، ويَحُثُّوا الهِمَم للجِدِّ في العمَل الشَّريف، ويزرعوا قيمة الأدب أخلاقا وآدابا، قبل الالتزام بقواعده تعبيرا وأداء ..
وقد اهتم الأستاذ الأديب عبد الله كنون[8] برسالة الأدب العربي، فذكر ـ في خطابه الذي ألقاه بمؤتمر أدباء العرب بالقاهرة في دسمبر 1957م بعنوان “النقد والقومية العربية” ـ إرشادات وتوجيهات قيِّمة فقال: <<ورسالة الأدب العربي، رسالة مقدَّسة يجب ألا تقتصر على الأغراض اللَّفظية، ولا على المتعة الذِّهنية، ولا على المعاني الذاتيَّة التي لا يشعر بها إلا الأديب المتكلِّم نفسه، إنَّها رسالة ! ومفهوم هذا اللَّفظ ممَّا ينبغي ألا يَعْزُب عن البال، فهو مهمَّة تقتضي الهدم والبناء، والعمل الجماعي المؤدِّي إلى الغاية التي أدَّت إليها رسالة النَّبيئين من قبل، غايته فتح الآذان الصُّم، والأعين العُمْي، والقلوب الغُلْف، على دعوة الحق التي تنقذ البشريَّة من ضلالها الحديث، كما أنقذتها بالأمس من ضلالها القديم، وإنَّها مقدَّسة : وليس المراد بهذا الوصف معناه الخيالي الذي يبتذله به الحالمون، وإنَّما المراد به الإكبار من شأن هذه الرِّسالة، ذات المسؤوليَّة العُظمى، التي لا يتحمَّلها إلا أبطال الكفاح من أجل القيم الإنسانِيَّة العليا، فهم والمجاهدون الذين يَزْرى مداد أقلامهم بدم الشُّهداء>>[9] .
لقد كان يطمح إلى أن يؤدِّي الأدب العربي رسالة سامية وهادفة، ويستوفي أغراضه وغاياته النَّبيلة، ويخاطِب الأمَّة العربيَّة والإنسانِيَّة جمعاء ويتَّجه نحو البناء والتَّأسيس، ويتحَوَّل إلى صرخة إصلاح وتغيير ذات رسالة تنشر الخير وتنتصر للحق، والدِّين، والأخلاق، والذَّوق، والجمال، وفي هذا الشأن يقول: <<لابدَّ لنا من إعادة النَّظَر في موادِّه وأصوله، وترتيبها على حسب المقاصد والأغراض، مجَسِّمين منها كلَّ ما له دلالة تطوُّرية ودعوة تحررية، وموضِّحين للأجيال النَّاشئة أهداف الرِّسالة الإنسانِيَّة، التي يقوم الأدب العربي على حفظها ورعاِيتها، وهداية البشر إلى ما فيها من خير وسلام ومعرفة وإيمان>>[10].
كما نبَّه إلى أنَّ رسالة الأدب لم تُؤَدَّ كما يجب إلى الجمهور العربي، لما يعتري واقع العالم العربي من صراعات بين تيَّارات اجتماعِيَّة متدافعة واتِّجاهات سياسيَّة مُتَأَذِّيَة من مسايرته، ولأنَّ الأدب لم تكن له رسالة يعنى بها في الدرجة الأولى إلا رسالة إقامة الألسنة وشحذ الأذهان، لهذا وجَّه خطابه إلى من يؤمنون بقدسيَّة رسالته ويناضلون عنها أن يأخذوا هذا الأمر بالجد، فيراجعوا النُّصوص الأدبيَّة في لغة الضَّاد ويعتنوا بالآثار القيِّمَة، ليتخيَّروا منها المادَّة الأساسية التي يمكن أن تدخل في بناء صرح الأدب العربي، ويعتمدوا على اللُّب دون القشر، ويهتموا بالمعاني والمقاصد لا بالألفاظ والقوالب، ويدرسوا الأدب للتَّربية والتَّوجيه، وفي هذا الشأن يقول: <<إنَّ مما دَرَجْنا عليه أن ندرس الأدب للمتعة لا للتَّوجيه، وأن نُعْجَب بالصِّيَغ الكلامِيَّة، ولا نحفل بما تتضمنه من دلالات معنوية، وقد آن لنا أن نُسْقِط من الأدب العربي كلَّ نَصٍّ لا يؤَدي مهمة في تثقيف فِكْر، أو تغذية عاطفة، أو بعث روح في شبابنا الطَّموح، ومن ذلك أدب المجون والاستجداء، والحِيَل اللَّفظية المُسَمَّاة بالمحسِّنات البديعِيَّة، ثم نعوضها بالنصوص الهادفة التي أهملنا كثيرا منها، حتى بقي أدبنا ضاوِيًا يشكو فقر الدَّم>>[11] .
لهذا دعا إلى دراسة القرآن الكريم والحديث الشريف، وما يلحق بهما من كُتُب الفقه، والكلام، والتاريخ، والرَّحلات .. دراسة موضوعيَّة، لا تقتصر على الشَّكل دون المضمون، أو العرض دون الجوهر، كما دعا إلى الاعتناء بهذه الآثار القَيِّمَة ودراستها دراسة المتنخِّل لها، المتعرِّف لدخائلها، حتى أنه اعتبر من يذهب مذهب دراسة الأدب كصناعة لفظِيَّة وزخرفة كلاميَّة يقترف جناية على رسالته، فقال: <<وكما كان تقسيمنا للأدب بحسب الأقاليم والعصور جناية على وحدته، كذلك كان اعتبارنا للأدب صناعة لفظِيَّة وزخرفة كلامِيَّة جناية على رسالته، فأعظم النُّصوص الأدبِيَّة في اللُّغة العربيَّة، وهو القرآن، لا يُعَدُّ في مادَّة الأدب عند كثيرين .. والطَّريقة التي ندرس بها هذا النَّص تبيِّن الآثار التي تركها في الأدب من حيث التَّعبير والأسلوب فحسب، وأما دراسته هو دراسة موضوعية على الأقل، كما ندرس ديوان الحماسة أو رسائل البديع مثلا، فهذا ما لا يهتم به أحد، وإلا فأين هو هذا الكتاب في أدب العرب الذي يعرض ولو سورة واحدة من القرآن، ولْتَكُن سورة يوسف مثلا، ولو على أنها قصة : في نماذجه الأدبية؟ ومثل هذا يقال في الحديث الشريف، الذي لا يكسبنا بلاغة وثروة كلامِيَّة فحسب، وإنما يكسبنا ثقافة فكرِيَّة وخُلُقِيَّة (…) وتأتي بعد ذلك كُتُب عديدة في الفقه، والكلام، والتَّصوف، نبعدها عن حظيرة الأدب، وهي تحتوي على فصول من أقوى ما كتب في الدِّفاع عن عقيدة، أو تقرير حُكْم، أو تحليل خاطر نفسي، وإن الفصل الواحد منها ليفيد في إنارة العقل، وتلقين الحجة أضعاف ما تفيده كثير من الرَّسائل المُتكَلَّفَة، والقصائد المُزَيَّفَة .. وتأتي كُتُب التَّاريخ والرَّحلات، وفيها من العِبَر والدُّروس ما لا يصحُّ للفرد العربي أن يجهله، لأن جهله هو الذي ييقيه على هذه الحالة من الرِّضا والاستسلام>>[12] .
—————————————–
[1] دَبَّج : كتب وزَوَّق ـ الطروس : جمع طرس ، وهي الصحيفة .
[2] مشارعه : جمع شريعة، وهي مورد الماء .
[3] الشرائع : جمع شريعة، وهي ما شرَّعه الله وسَنَّه للناس من القوانين والأحكام .
[4] نهاية الأرب في فنون الأدب ـ تحقيق : الدكتور مفيد قميحة ـ دار الكتب العلمية : ( 1424ه ـ 2004م) : 1 / 4
[5] الفنَن : الغصن المستقيم من الشجرة
[6] التليد : المجد القديم ـ والطارف : المجد الحديث
[7] نهاية الأرب في فنون الأدب : 1 / 4 ـ 5
[8] هو الكاتب والمؤرخ والأديب والشاعر المغربي، وعضو العديد من المجامع العلمية واللغوية والإسلامية، وهو مؤسس النهضة التعليمية في طنجة، وباعث الروح العربية والإسلامية في أبنائها، وأحد الرواد الكبار في إرساء قواعد النهضة الأدبية والثقافية والعلمية في المغرب، منذ منتصف العشرينيّات إلى أن توفاه الأجل في 9 يوليو 1989م، ومن أشهر كتبه : كتاب النبوغ المغربي، ـ وكتاب التعاشيب وهما مطبوعان، والعديد من الكتب والمؤلفات، والمقالات، ودواوين الشعر..
[9] خل وبقل، مجموعة مقالات أدبية ونقدية/ لعبد الله كنون ـ المطبعة المهدية، تطوان(المغرب) : ص 155
[10] خل وبقل : ص 158
[11] خل وبقل، مجموعة مقالات أدبية ونقدية/ لعبد الله كنون ـ المطبعة المهدية، تطوان(المغرب) : ص 156
[12] خل وبقل، مجموعة مقالات أدبية ونقدية/ لعبد الله كنون ـ المطبعة المهدية، تطوان(المغرب) : ص 156 ـ 157