داء القـلـــوب طارق برغاني

يعد القلب في مجال الطب والتشريح مجرد عضلة تضخ الدم إلى باقي أعضاء الجسم، لتزويدها بالأوكسجين ومواد القيت اللازمة لبقاء الخلايا والأنسجة على قيد الحياة، لكنه في التشريع الرباني والهدي النبوي يتجاوز دوره هذه الوظيفة، ويتعدى معناه ومفهومه هذا التعريف، لأنه يشكل في الحقيقة وعاء لتلقي النور الإيماني، ومنفذ لانبثاق وسريان هذا النور على سائر الجسد، وهو محرك للتعقل في مآل الأمور وأداة للتفكر في النواميس الكونية ووسيلة للتذكر في السنن الربانية، “وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَو أَلْقَى السَّمْعَ وَهُو شَهِيدٌ ” ق:36-37.
صلاح الجسد من صلاح القلب
القلب مؤشر على صلاح سائر الجسد، وهذا الترابط والتلازم، من الأمور المهمة التي ينبغي للمؤمن التنبه إليها والحرص عليها، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إنَّ الحَلالَ بيِّنٌ وإنَّ الحَرامَ بيِّنٌ وبينَهمَا مشْتَبَهَاتٌ لا يعْلَمُهُنَّ كثيرٌ من الناسِ، فمنْ اتَّقَى الشبهَاتِ استَبرَأَ لدينِهِ وعِرضِهِ، ومن وقعَ في الشبهَاتِ وقعَ في الحرامِ، كالراعِي يرعَى حولَ الحِمَى يوشِكُ أنْ يَرْتَعَ فيهِ ،ألا وإنَّ لكلِ ملِكٍ حِمًى، ألا وإنَّ حِمَى اللهِ محَارِمُهُ ،ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وإذَا فَسَدَتْ فسدَ الجَسدُ كُلُّهُ، ألا وهِيَ القَلبُ” مسلم: 1599.
القلب كما قد ينال منه المرض العضوي والحسي، فقد يكون عرضة للوهن المعنوي والضعف الإيماني فيصيبه الداء ويغلفه الران وتغشاه الحجب، وهذه الأدواء وغيرها لها أسبابها ومنها أصنافها المفضية إلى نتائج سيئة وتداعيات مُهلكة.
الأسباب والبواعث
الفتـنــة:
مبعث كل شر ومصدر كل سوء، يقول الله تعالى: “لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ” الحج:53، واتقاؤها فيه لصحة القلوب مصلحة عظمى وله في صلاح الدين والعباد قيمة كبرى، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا ولا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ” مسلم: 144.
الغفـلــة:
القلب معقل التدبر والتذكر في آيات الله وملكوته، وهو محرك الوجدان والروح، وإغفال هذه المعاني ونسيان هذه الفضائل، من بواعث ضعف القلوب وموتها: “وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا” الكهف: 28.
البعد عن الذكر والانحراف عن الحق:
كلما ابتعد العبد عن معالم الحق التي أنزلها الله تعالى في كتبه، وحاد عن مسالك النجاة التي أرشد إليها رسله، إلا وانطفأ نور القلب الذي يهتدى به، وخمد ضياؤه، فصار معتما لا يجد له الحق سبيلا: “أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ” الحديد: 57.
كتـم الشهــادة:
وهي من آثام القلوب، لما فيها من تضييع لمصالح العباد، وإنبات لبذور الشر والشقاق، وتهيئ لمحاضن الشك والصراع: “وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ۚ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ” البقرة: 283.
أصناف الأمراض
النفاق:
يبين لنا القرآن الكريم في مطلع سورة البقرة أوصاف المنافقين، وحال قلوبهم المريضة، التي لا تستقيم على الحق ولا تهتدي إلى الصواب، “فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ” البقرة:10.
قلوب متذبذبة مرتجفة مترددة، ما تزيد أصحابها إلا ضعفا وهوانا وذلا: “لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا” الأحزاب: 60.
الخصومة والرغبة في الإفساد:
اللجاج والإصرار على الرأي الفاسد، والإعراض عن الحق تعصبا وعنادا، وإضمار نية الشر وابتغاء الفساد في الأرض، كلها مظاهر وأعراض لتفشي واستفحال داء القلوب: “وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُو أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ” البقرة: 204-205.
الطمع فيما حرم الله:
وهذا باب مُمهِّد لإيقاظ بواعث الفتنة واتقاد لهيبها، وهو مظهر من مظاهر تجاوز والتعدي على حدود ومحارم الله ودلالة على نقص في الإيمان، وخفة في الاستقامة، وترهل في التقوى: “يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا” الأحزاب: 32.
التنازع والفرقة والشتات:
القلب مكمن القناعات والاعتقادات والرؤى والآراء وما تآلفت قلوب قوم أو فئة في الرأي والعقيدة والاتجاه إلا واتحدت قلوبهم واجتمعت كلمتهم واشتدت شوكتهم، وما تنافرت قلوب قوم استحكمت فيها الأنانية والتعصب والحقد والعداوة إلا وساد بين أفراده النزاع والفرقة والشتات: “لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَومِن وَرَاءِ جُدُرٍ ۚ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ” الحشر:14، وهذا باب عظيم يشخص حال أمتنا اليوم وما تعانيه من وهن وفتور.
التداعيــات والنتائــج
القسوة:
وهي نتيجة بديهية لكل قلب أعرض عن الحق لما جاءه، وانتكس إلى النكران والجحود بعدما أفاض الله عليه من نعمه، وعاين آيات الله ومعجزاته: “ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوأَشَدُّ قَسْوَةً” البقرة:74.
الطبــع:
المراء والجدال ضد الحق بغير دليل مقنع وبدون حجة دامغة، يُعمي البصيرة، ويسم القلب بطابع الإسراف والغلو في الضلال ومحادَّاة الله ورسله: “الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ۖ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ” غافر:35.
الختـم:
أخطر أنواع الأدواء القلبية وأشدها وهو نتيجة أعظم الذنوب وأكبر المعاصي ألا وهو الشرك بالله تعالى واتخاذ الهوى إلها من دون الله: “أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ” الجاثية: 23، “…أفرأيت يا محمد من اتخذ معبوده هواه، فيعبد ما هوى من شيء دون إله الحق الذي له الألوهة من كل شيء..” تفسير الطبري: 22/77.
وأمراض القلوب كثيرة ذكرها القرآن الكريم في مواضع متفرقة منها الران والقفل والتغشية والتغليف والزيغ وغيرها.
نسأل الله تعالى أن يثبت قلوبنا على دينه، وأن يشرح صدورنا لهديه.
والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *