لقد دعت الشريعة الإسلامية إلى اتخاذ أسباب القوة على سائر المستويات ومنها القوة البدنية، ومما يدل على ذلك قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} الأنفال:6.
عن عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، يَقُولُ: “وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ” أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ”. رواه مسلم:4984.
قال ابن عاشور -رحمه الله-: “فاتخاذ السيوف والرماح والأقواس والنبال من القوة في جيوش العصور الماضية، واتخاذ الدبابات والمدافع والطيارات والصواريخ من القوة في جيوش عصرنا، وبهذا الاعتبار يفسر ما روى مسلم والترمذي عن عقبة بن عامر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرأ هذه الآية على المنبر ثم قال: ألا إن القوة الرمي، قالها ثلاثا، أي: أكمل أفراد القوة آلة الرمي، أي: في ذلك العصر. وليس المراد حصر القوة في آلة الرمي”. التحرير والتنوير11/56.
لهذا فقد اعتنى سلفنا الأبرار بتنشئة الأطفال تنشئة بدنية سليمة، وتربيتهم تربية جسمية مستقيمة، هذه العناية التي تظهر منذ ولادة الطفل بضمان حقه في الرضاعة كما قال -تعالى-: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} البقرة: 233.
قال ابن عاشور -رحمه الله-: “وقد جعل الله الرضاع حولين، رعيا لكونهما أقصى مدة يحتاج فيها الطفل للرضاع إذا عرض له ما اقتضى زيادة إرضاعه، فأما بعد الحولين فليس في نمائه ما يصلح له الرضاع بعد، ولما كان خلاف الأبوين في مدة الرضاع لا ينشأ إلا عن اختلاف النظر في حاجة مزاج الطفل إلى زيادة الرضاع، جعل الله القول لمن دعا إلى الزيادة، احتياطا لحفظ الطفل”. التحرير والتنوير2/432.
وقال محمد رشيد رضا -رحمه الله-: “وقد حددت مدة الرضاعة التامة بسنتين كاملتين مراعاة للفطرة بالنسبة إلى ضعف الأطفال في أقل البيوت أو البيئات استعدادا للعناية بالتربية، واللبن هذا الغذاء الموافق لكل طفل في هذه المدة”. تفسير المنار2/356.
ومن العناية الجسدية بالأطفال وجوب النفقة على من يعولهم كما قال تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته} الطلاق:7.
فهذا أمر بالإنفاق على الولد بحسب الوسع، قال ابن كثير -رحمه الله-: “أي: لينفق على المولود والده، أو وليه بحسب قدرته”. تفسير ابن كثير 8/179.
وعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: دخلت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني، إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل علي في ذلك من جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك”. رواه البخاري برقم 5359 ومسلم برقم 1714.
قال ابن المنذر -رحمه الله-: “أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، على أن على المرء نفقة أولاده الأطفال، الذين لا مال لهم” الإجماع ص:98.
ومن العناية الجسمية للأطفال حمايتهم من كل ما يضرهم أو يتسبب في مرضهم، فعن فاطمة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتاها يومًا فقال: أين أبنائي؟ فقالت: ذهب بهما علي فتوجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوجدهما يلعبان في مشربة وبين أيديهما فضل من تمر. فقال: أيا علي، ألا تقلب ابنيَّ قبل الحر؟ رواه الحاكم في المستدرك برقم 4717.
ومن الحرص السلف على سلامة أجسام الأطفال حضهم على ممارسة الرياضة البدنية فعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: “سَابَقَنِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَبَقْتُهُ، فَلَبِثْنَا حَتَّى إِذَا أَرْهَقَنِي اللَّحْمُ سَابَقَنِي فَسَبَقَنِي، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : “هَذِهِ بِتِلْكَ”.رواه أبو داود برقم 2578، وابن حبان في صحيحه برقم4691.
وعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَجَابِرَ بْنَ عُمَيْرٍ الأَنْصَارِيَّيْنِ يَرْمِيَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: “كُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ، فَهُوَ لَهُوٌ وَلَعِبٌ، إِلا أَرْبَعَ: مُلاعَبَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، وَتَأْدِيبُ الرَّجُلِ فَرَسَهُ، وَمَشْيُهُ بَيْنَ الْغَرَضَيْنِ، وَتَعْلِيمُ الرَّجُلِ السَّبَّاحَةَ” رواه النسائي برقم 8616.
وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: “أنه كتب إلى أبي عبيدة -رضي الله عنه-: أن علموا غلمانكم العوم، ومقاتلتكم الرمي”. رواه أحمد في مسنده برقم323
وعن أبي أسامة عن الأعمش عن عبد الرحمن قال: “خرجت مع أبي إلى الجبان فقال: تعال يا بني حتى أسابقك، قال: فسابقته فسبقني”. مصنف ابن أبي شيبة برقم:34275.
وعنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ شِمَاسَةَ، أَنَّ فُقَيْمًا اللَّخْمِيَّ قَالَ لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: تَخْتَلِفُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْغَرَضَيْنِ، وَأَنْتَ كَبِيرٌ، يَشُقُّ عَلَيْكَ؟ قَالَ عُقْبَةُ: لَوْلاَ كَلاَمٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ أُعَانِهِ، قَالَ الْحَارِثُ: فَقُلْتُ لاِبْنِ شَمَاسَةَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: إِنَّهُ قَالَ: “مَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ، ثُمَّ تَرَكَهُ، فَلَيْسَ مِنَّا، أَوْ قَدْ عَصَى” أخرجه مُسْلم برقم4987.
ومن ذلك الاعتناء بنظافتهم وطهارتهم، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ينحي مخاط أسامة، قالت عائشة: دعني حتى أكون أنا الذي أفعل، قال: “يا عائشة أحبيه؛ فإني أحبه” رواه الترمذي برقم:3818.
ومن ذلك عيادة الطفل عند مرضه فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: “كان غلامٌ يهودي يخدم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فمرض فأتاه يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: (أسلم)، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم، فأسلَمَ، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: (الحمد لله الذي أنقذه من النار) “رواه البخاري:1290.
ومن ذلك منع الصبي من الخروج وقت انتشار الشياطين حتى لا يؤذوه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : “..وأكفتوا صبيانكم عند العشاء؛ فإن للجن انتشارًا” رواه البخاري برقم3138.
وكذلك معالجتهم من الأمراض عن طريق العلاج بالقرآن فهو شفاء لكل داء كما قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} الإسراء:82.
قال ابن عاشور -رحمه الله-: “وفي الآية دليل على أن في القرآن آيات يشتفى بها من الأدواء والآلام ورد تعيينها في الأخبار الصحيحة” 16/200.
وعلاجهم بالرقية الشرعية، فعن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعوِّذ الحسن والحسين
ويقول: “أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة” رواه الترمذي برقم 2060 وأبو داود برقم 4737. ويقول: “هكذا كان إبراهيم يعوذ إسحاق وإسماعيل عليهما السلام” رواه البخاري برقم 3371
وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَت: دَخَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَسَمِعَ صَوْتَ صَبِيٍّ يَبْكِي، فَقَالَ: “مَا لِصَبِيِّكُمْ هَذَا يَبْكِي، فَهَلَّا اسْتَرْقَيْتُمْ لَهُ مِنَ الْعَيْنِ؟ رواه أحمد في المسند برقم23883
مع الحرص على إبعادهم عن كل الطرق الشركية في العلاج فعَنْ أَبِي قِلابَةَ، قَال: “قَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التَّمِيمَةَ مِنْ قِلادَةِ الصَّبِيِّ يَعْنِي الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ : وَهِيَ الَّتِي تُخْرَزُ فِي عُنُقِ الصَّبِيِّ مِنَ الْعَيْنِ” مصنف عبد الرزاق برقم 20342.
وكذلك علاجهم عن طريق التداوي بالأدوية المختلفة فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله عز وجل”. رواه مسلم برقم 2204.
وقد حرص السلف أن يكون أبنائهم ممن يسخرون قوتهم في سبيل نصر هذا الدين، فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة”. رواه البخاري برقم 2850.
وعَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ -رحمه الله-، قَالَ: “لَأَنْ يَكُونَ لِي ابْنٌ مُجَاهِدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ” مصنف ابن أبي شيبة برقم18861.
وقال أعرابي لِبُنَيٍّ لَهُ:
وَهَبْتُهُ بَعْدَ اللَّتَيَّا الَّتِي *** حَتَّى حَمَا قَوْسِي وَشَابَتْ لِمَّتِي
وَلَمَّعَ الشَّيْبُ بَيَاضَ لِحْيَتِي *** مَاضٍ عَلَى الأَعْدَاءِ فِيهِ قَسْوَتِي
يَكْبِتُ أَعْدَائِي وَيَحْمِي نِسْوَتِي
العيال لابن أبي الدنيا ص278
بهذا يظهر جليا اعتناء السلف بجانب التربية الجسمية لأطفالهم وتقوية أبدانهم من أجل تكوين المسلم القائم بحقوق ربه والفاعل داخل مجتمعه والنافع لأمته.