التوظيف الغربي للصوفية والأشعرية في حرب الإسلام

كان الدين عبر التاريخ في حياة المسلمين أداة وحدة وقوة ومنعة، يُذِيبُ الفوارق الاجتماعية، ويُدمج الانتماءات العرقية، ويحقق العدالة والأمن والسلم، فجمع الله سبحانه به شتات العرب واختلاف الأعراق والملل والنحل، وجعل للمسلمين بالإسلام دولة وصولة وتمكينا، وحضارة ورقيا وازدهارا، لذا فالتاريخ يشهد أن أبهى العصور التي عاشها المسلمون هي يوم كانت تطبق الشريعة ويعمل فيه بالدِّين، فكان الدين المحفز والدافع لبناء حضارة حكمت العالم 13 قرنا.
وتبلغ مكانة الدين في تكوين الهوية الجَمْعية والفردية لدى المسلمين أهمية كبرى، بحيث لا يسع أعداءَهم أن يستحوذوا على مقدرات البلدان الإسلامية، إلا
عندما يفرغ الإسلام من محتواه، فيصبح مجموعة طقوس فردية أو جماعية تفصل بين المسلم والحياة.
هذه المكانة البالغة للإسلام يعرفها الغرب من خلال دراساته لمختلف العلوم الشرعية والعقائد الإسلامية، وأدرك بفعل الواقع إبان احتلاله للبلدان الإسلامية أن رجوع المسلمين للدين وتمسكهم بعقيدة الولاء والبراء، كان سببا في عدم اندماجهم في نظمه وحال دون خضوعهم لسيطرته.
لذا كان يشجع الخرافة والمواسم البدعية، ويدعمها بالمال والقوة والرجال.
الدور الوقائي النهضوي نفسه لعبه الإسلام ضد المد الشيوعي والاشتراكي، حيث فشلت كل محاولات القطع بين الإسلام والمسلمين، رغم تنوعها من قومية وبعثية واشتراكية وشيوعية…، فتحطمت كلها لتهيمن من جديد صحوة إسلامية سنية رفعت شعار الإصلاح ونهضت للدفاع عن أمن وسلام المسلمين في كل بقاع العالم، من الشيشان والبوسنة والهرسك، إلى فلسطين والعراق وسوريا، مرورا بالصومال وأفغانستان.
صاحبتها صحوة إسلامية آمنت بالمدافعة السياسية من مرجعية إسلامية ضد فلول الاحتلال الغربي ووكلائه العلمانيين.
هذه الصحوة وهذا الانبعاث الجديد للإسلام جاء مباشرة بعد إسقاط الخلافة الإسلامية سنة 1924 والذي تطلب من الغرب حملات صليبية شرسة امتدت لقرون مديدة، وأكثر من قرن ونصف من حملات الاحتلال المباشر، قدم فيها أرواح الآلاف إن لم نقل الملايين، وتطلبت منه حربين عالميتين مدمرتين له ولأعدائه.
خلال تجربته المريرة مع المسلمين استيقن الغرب أن مؤسسات الدعوة ورجالها والتيارات الإسلامية النهضوية، هي العوامل الأساسية التي تحول دون هيمنة كاملة على ثروات بلدان المسلمين، لما تزرعه في نفوس المسلمين من روح الإسلام وقوة العقيدة التي ترفض أن يعيش المسلم تحت حكم غيره، وتدفعه إلى الرجوع إلى شريعته والتمكين لدينه، وهذا يهدد المصالح الاستراتيجية الحيوية للغرب في بلاد المسلمين، لذا لم يجد هذا الغرب بُدا من محاربة كل التيارات الإسلامية رجالها ومؤسساتها وفكرها ودعوتها سواء في ذلك من تبنى العمل المسلح أو من رأى الحل في الممارسة السياسية بل حتى من اقتصر على العلم والتعليم والدعوة.
حرب الغرب لمؤسسات الدعوة الإسلامية وتياراتها اتخذت وسائل وآليات عديدة نخص بالذكر منها ثلاثة:
الآلية الأولى:
شيطنتها لكل التيارات الإسلامية وإظهارها عدوا للحضارة والسلم، من خلال دعم الإرهاب وجماعاته وتقويتها على أرض الواقع وفي بؤر التوتر، وتوظيف الدراسات الموجهة والتقارير والأبحاث في تكبير صورة الإرهاب المصنوع والمدعوم حتى يغطي على كل حركات التحرر والمدافعة، حيث أصبح كل من يتبنى المقاومة المسلحة إرهابي داعشي سواء كان في القدس وفلسطين أم في سوريا والعراق، وتساوى في التهمة من يكفر الحكومات والمجتمعات مع من يدافع عن المسلمين ودولهم.
الآلية الثانية:
دفع الدول الإسلامية لحرب الدعاة ومؤسساتهم وتياراتهم والتضييق عليها، فبعد الشيطنة صار كل ما هو دعوي يتراوح بين الإرهاب والتطرف، واضطرت الدول الإسلامية التي تعاني أصلا من الهشاشة السياسية والفقر السيادي على بلدانها، إلى الخضوع للإملاءات الغربية. وأجبرت بعد أحداث الحادي عشر من شتنبر الأمريكية، وبفعل صناعة الغرب للإرهاب وعولمته، على الاصطفاف مع عدوها في محاربة ما أسماه الإرهاب والتطرف، ليتبين في النهاية سواء بوعي أو بدونه، أن الدول الإسلامية تقوم بحرب ضد أبنائها وشعوبها بالنيابة عن عدوها التاريخي.
الآلية الثالثة:
إحياء الأشعرية وبعث الصوفية وتثويرهما ضد مؤسسات الدعوة ورجالها، وتوظيفها في حرب التيارات الإسلامية،
فإحياء الأشعرية وبعث الصوفية ليسا رغبة ولا مطلبا للشعوب الإسلامية، وليسا تطورا للحياة العلمية والدعوية والسلوكية، بل هي استراتيجية غربية لحرب الصحوة السلفية التي أيقظت الشعوب الإسلامية لحرب الهيمنة الغربية على مقدرات الأمة، تضمنتها بحوث وتقارير وخلاصات الدراسات الإستراتيجية كحل للتطرف والإرهاب في العالم، وقدمت للحكام على أنها الترياق الذي يجب إيصالها إلى أفراد الشعب حتى تشفى من نزعات التطرّف الوهابي السلفي، الذي أفرز فكر التكفير المسؤول الوحيد والأوحد على كل عمليات التفجير والقتل في العالم، هكذا يصورون.
ومن عجيب ما تسمع الأذنان وترى العينان أن روسيا الشيوعية، بلد الاشتراكية العلمية، بلد الدين أفيون الشعوب، بلد لينين وستالين وخروتشوف، البلد الذي أباد سلطان الكنيسة الأورثوذكسية التي حاربت الإسلام قرونا مديدة، تدعو وترعى مؤتمرا لتوحيد الأشاعرة والصوفية، وتشكيل جبهة قوية لحرب الوهابية والسلفية والحنابلة.
روسيا كلفت جنديها المخلص رئيس الشيشان بالمهمة، لأنها تعلم مدى حقده على السلفيين، الذي لا يخفيه في تصريحاته من قبيل قوله: “أقسم بالله لو يظهر في الشيشان وهابي أو أحد يُشْبِهه فسأقتله” ..“والله أقسم بالقرآن لن تقوم في هذه البلاد عقيدة أخرى غير عقيدة أولياء الصوفية”.
لهذا استدعى الأشاعرة والصوفية من البلاد الإسلامية ليحددوا “من هم أهل السنة والجماعة”، وليأتمروا بينهم ويتشاوروا في “من يدخلها ومن يخرج منها” فخلصوا إلى أن أهل السنة هم: “الأشعرية والماتريدية والطرق الصوفية”.
وبهذا يخرجون السلفيين وكل الجماعات الإسلامية والدعاة والعلماء الكبار، الذي كانوا أقطاب هذه الصحوة العلمية الدعوية التي شهدها العالم الإسلامي وعمت أوربا وأمريكا بمراكزها ومؤسساتها، الأمر الذي يجعل هذا المؤتمر بمثابة الانقلاب على الإسلام ومحاصرة تمددها لفائدة المد الصفوي والنشاط التنصيري، وكلاهما مدعوم من طرف أمريكا وروسيا.
ومعلوم أن روسيا قد عانت الأمَرّين من شراسة المقاومة السنية بعد تفككها، خصوصا في الشيشان، وعلى وجه الدقة في ولاية غروزني التي نظم فيها المؤتمر والتي عرفت مقاومة منقطعة النظير استدعت من روسيا أن تقوم بإبادة شاملة لأهلها وتدمير كامل لعمرانها، حتى اعتبرتها الأمم المتحدة أعظم المدن دمارا في العالم سنة 2001.
مؤتمر الشيشان تضمن عنصرين هامين:
1- لم يستدع له السلفيون سواء الرسميون في السعودية، أو غير الرسميين من القائمين على المؤسسات الكبرى البحثية والعلمية.
2- لم يتناول في أشغاله وتوصياته أكبر مهدد لأهل السنة ولوجودهم وهو الهجوم الإيراني الشيعي الصفوي واكتساحه لبلاد السنة، وضمها إلى الهلال الشيعي، ومنها بلاد العراق وسوريا واليمن وكذا الغزو العقدي لعقيدة أهل السنة من خلال النشاط التبشيري الإيراني المحموم الذي يستهدف شعوب الدول السنية.
مؤتمر الشيشان هو استمرار لتنفيذ ما اتفق عليه الغرب وأطبقت عليه مراكز دراساته الاستراتيجية، وملخصه، أن محاربة السلفية بمختلف تياراتها، التي تندرج ضمنها حسب التصنيف الغربي الاستراتيجي كل الجماعات الإسلامية التي تُمارس السياسة وتلك التي تتبنى العمل المسلح. ولن تكون هذه المحاربة إلا بإحياء الأشعرية والصوفية، وضرب هذه المكونات جميعها بعضها ببعض.
فالأشعرية لإحياء الجدل الكلامي العقدي الذي يصرف عن العقيدة الإسلامية السمحة ويلهي الدعاة بالكلام ومباحثه الفلسفية ، وإذكاء التعصبات والتحيزات، وذلك حتى تنصرف جهود العاملين في ساحة المعارك الوهمية، وتخرج من مجالات المدافعة والصراع مع الغرب وأذنابه.
أما الصوفية فالغرض من إحيائها هو إتمام فصل الدين عن الدولة بسكين ملتحٍ، لإدراك الغرب من خلال دراساته الكثيرة للتصوف والمتصوفة، أن الفكر الصوفي يختزل كل الدين في الجانب السلوكي والإشباع الروحاني الذي غالبا ما يكون محاطا بتقديس الرجال موغلا في الخرافة، ويقطع الفرد عن واقعه ليربطه بتدين طقوسي لا يؤثر على السياسة ولا ينتقد الأحزاب ولا يطمح إلى تطبيق الشريعة.
وكلاهما أي الصوفية والأشعرية تؤدي دور فصل المسلم عن دينه الحق وعن واقعه المعيش، وتجعل من الإسلام المعدل دينا منسجما مع العلمانية موافقا لها غير متدافع معها، وهذا أقصى ما تطمح إليه الدول الغربية، التي تحاول تهجين الإسلام وجعله دينا حداثيًّا على حد تعبير فوكوياما.
والخطير في هذه الدعوة المحمومة المشبوهة إلى إحياء الأشعرية والتصوف، أنها دعوة تفكيكية تجزيئية، تتعامل مع العقيدة الأشعرية بانتقاء وتشذيب وتختزلها في حربها الكلامية مع السنة، فهي لا تتعرض لموقف الأشاعرة من الكفار وفتاويهم في مناصرة اليهود والنصارى، ولا تأخذ من تراث الأشعرية إلا ما يخدم استراتيجيتها الحربية للسلفيين في بلاد المسلمين.
فأصبح -وفق هذه الاستراتيجية- كل من يمارس الدعوة وينشر الإسلام خارج المؤسسات الرسمية، محصورا بين حاجزي الإرهاب والتطرف، ويستغل علماء الأشعرية والتصوف في توقيع صك الاتهام، من خلال المؤتمرات والندوات التي تمول من طرف الإمارات والشيشان وغيرها من الدول المنخرطة في حرب السلفيين بالوكالة عن روسيا وأمريكا.
ولعل أخطر ما في هذا الموضوع، أن الشعوب الإسلامية أصبحت تعيش أكبر جريمة في تاريخها ألا وهي علمنة الإسلام وتحجيره، من خلال أمرين:
الأول: سحبه من الشعوب والمجتمع وإقصاء دورهما في حمايته ونشره، وذلك بتحنيطه في مؤسسات رسمية محكومة بالرؤية السياسية للدين، وإنشاء نظام كهنوتي يستحوذ فيه العلماء الرسميون على الفتاوى ليصبح العلماء الربانيون المفروض فيهم الاستقلالية الكاملة، مجرد “رجال دين” بالمفهوم الكنسي ليصبح لدينا بعد مرور الوقت طبقة للإكليروس مرتبطة بالحكام والسياسيين ارتباطا عضويا، الأمر الذي سيجعل من الإسلام تابعا للسياسة محكوما بحساباتها، مسخرا لخدمة برامجها ومصالح رجالها.
الثاني: ضرب مكونات الإسلام بعضها ببعض، ثم إخراج ما دون طبقة “رجال الدين” من مفهوم العلم وطردهم خارج دائرة العلماء، وشيطنتهم حتى ينفض الناس من حولهم، الأمر الذي سيجعل الشعوب تفقد الثقة في علمائها الحقيقيين.
وبهذا يتم التوظيف الغربي للأشعرية والصوفية لحرب الإسلام وقتل كل ممانعة في جماعاته وتياراته، دون أن يحتاج إلى حروب مباشرة كما فعل في بداية القرن العشرين.
فمتى يستيقظ العاملون الطيبون الذين يوظفون في معارك بين المسلمين تضعف دولنا وشعوبنا، وتقوي هيمنة الغرب على حضارتنا وتمكنه من التأثير على القرارات السيادية في حكوماتنا؟؟
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم
إبراهيم الطالب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *