وتفيد عبارة (ناس من أهل التوحيد) في الحديث النبوي التبعيض. فأهل النار ليسوا كلهم أهل التوحيد، بل طائفة منهم فقط وحّدوا لكن استحقوا العذاب لكثرة معاصيهم وقلة إيمانهم. أما أهل التوحيد على العموم فهم كل من قبل الله تعالى توحيده فانتمى حقيقة إلى جماعة المسلمين. ومن لم يُعذب منهم فهو في الجنة يتنعّم، وكل من وحّد الله تعالى ومات على ذلك دخل الجنة كما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، عليه ثوب أبيض، ثم أتيته فإذا هو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فجلست إليه فقال: “ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة”. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: “وإن زنى وإن سرق”. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: “وإن زنى وإن سرق” ثلاثا. ثم قال في الرابعة: “على رغم أنف[1] أبي ذر”. فخرج أبو ذر وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذرّ»[2].
وإذا كان مفهوم مصطلح ”أهل التوحيد” في أخبار الآخرة بهذه السعة حيث كشف ربنا عز وجل عن خبايا القلوب، فماذا نقول عن حجمه في الحياة الدنيا حيث الأحكام تجري على الظواهر الجلية دون البواطن الخفية كما تنطق بذلك الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } (النساء:94).
وقال الإمام الشاطبي: «إن أصل الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصاً، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموماً، فإن سيّد البشر مع إعلامه بالوحي يجري الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم، وإن علم بواطن أحوالهم، ولم يكن ذلك بمخرجه عن جريان الظواهر على ما جرت عليه [….] ولم يستثن من ذلك أحداً حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتاج في ذلك إلى البينة، فقال من يشهد لي؟ حتى شهد له خزيمة بن ثابت فجعلها الله شهادتين فما ظنك بآحاد الأمة، فلو ادعى أكذب الناس على أصلح الناس لكانت البينة على المدعي، واليمين على من أنكر، وهذا من ذلك والنمط واحد، فالاعتبارات الغيبية مهملة بحسب الأوامر والنواهي الشرعية»[3].
أهل التوحيد في الدنيا كما يفهم من نصوص الحديث هم كل من قال لا إله إلا الله ولم يصدر منه ما يخرجه يقينا من الدين من شرك أو كفر. وهو داخل تحت حكم الأشعري بعدم تكفيره، وذلك لعموم حديث أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه وحسابه على الله»[4].
ومن ضوابط عدم تكفيره الحكم بالظواهر وردّ أمر البواطن إلى الله تعالى. فقد أقر الشرع هذا في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه قال:« بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سريّة، فصبّحنا الحرقات من جهينة، فأدركتُ رجلا فقال لا إله إلا الله فطعنته. فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقال لا إله إلا الله وقتلته؟» قال، قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفا من السلاح. قال: «أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟» – قال- فما زال يُكرّرها حتى تمنّيت أني أسلمت يومئذ»[5].
نضيف إلى ذلك النهي الصريح من الشرع عن استحلال دم المنافقين ولو ظهر نفاقهم، لدخولهم في عموم أهل التوحيد كما نطق به حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين استأذنه أحد المسلمين في قتل رجل من المنافقين، حيث قال له عليه الصلاة والسلام: «”أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؟”، فقال الرجل: بلى ولا شهادة له. فقال: “أليس يصلي؟” قال بلى ولا صلاة له. فقال صلى الله عليه وسلم: “أولئك الذين نهاني الله عنهم”»[6].
بهذا الفهم الذي أخذ به أبو الحسن الأشعري في الإبانة، تضيق دائرة التكفير وتتسع قاعدة المنتمين إلى الإسلام، لأن التكفير مذموم واجب تركه عند عدم الحجّة البيّنة اليقينية التي نص عليها الشرع.
فما يُبنى على حكم التّكفير خطير، حيث ترفع العصمة في الدّماء والأموال، وتنحلّ عقد الزّوجية فيضيع الأبناء ويفتح باب الفاحشة والفجور في المجتمع، بل ويرفع التوارث فيُشرع بابُ الفتنة بقطيعة الأرحام وحرمان الناس من حقوقهم. هذا هو منهج أهل السنة في هذه المسألة، وهو الذي عليه الإمام أبي الحسن الأشعري في الإبانة.
والملاحظ أن تقريراته العقدية وافقت ما أوردناه من نصوص الشرع بالتمام، لذلك فكل من سار على هديه يكون قد سار على هدي النبي صلى الله عليه وسلم في بيان أهل التوحيد. ولا يحل له أن يكفّر أحدا من المسلمين إلا من نطقت نصوص الشرع بكفره. أما إعمال الأفهام في هذه المسألة من غير ضوابطه فقد يهدم مقصد الوحدة في الأمة ويحلّ محله التفرق والتنازع والفشل، قال الله عز وجل: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال:46).
والحمد لله رب العالمين
الهوامش:
[1] – رغم أنف فلان: لصق بالتراب وهو كناية عن الهوان.
[2] – صحيح مسلم، رقم الحديث:94، ج1، ص95.
[3] – أبو إسحاق الشاطبي، 2/467-469.
[4] – صحيح مسلم، رقم الحديث:37، ج1، ص53.
[5] – صحيح مسلم، رقم الحديث: 158، ج1، ص96.
[6] – مسند أحمد بن حنبل، رقم الحديث:23670، ج39، ص73.