الحيـــــــاء طارق برغاني

حبنا للنبي صلى الله عليه وسلم، يجعلنا نقتدي بسنته ونتمثل أخلاقه ونستحضر سيرته في عباداتنا ومعاملاتنا وتصرفاتنا الظاهرة والباطنة، وهذه خصيصة المسلم المحب للمصطفى عليه الصلاة والسلام، المهتدي بهديه، المتخلق بخلقه، المستمد من القرآن الكريم لقول الله تعالى: “وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ” القلم:3-4، بل إن خلقه صلى الله عليه وسلم كان تجسيدا حيا للقرآن، فقد جاء في الأثر: “دخلنا على عائشةَ فقلنا: يا أمَّ المؤمنين، ما كان خُلُقُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم؟ قالت: كان خُلُقُه القرآنُ” صحيح الأدب المفرد:234؛ صحيح لغيره.
وهذه الأخلاق النبوية والشمائل المحمدية تحمل في تنوعها وتعددها منهج حياة وطريقة اهتداء وسنة اقتداء، ومن بين هذه الأخلاق التي لا تنقطع ولا تنحصر نجد خلق الحياء الذي استطاع به النبي صلى الله عليه وسلم كسب أقسى القلوب تحجرا وتأليف أعتى النفوس إنكارا، وتليين أشد الخواطر تنافرا، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إنَّ لِكُلِّ دينٍ خُلُقًا، وخُلُقُ الإسلامِ الحياءُ” صحيح ابن ماجة: 3389، وهذا الخلق يشمل مجموعة من المعاني نجملها في هذه الإشارات التالية:
الحياء من الإيمان
فهو مظهر من مظاهر استحضار مراقبة الخالق عز وجل في الروح، كما أنه تزكية للنفس وهو تجل يظهر في سمت المؤمن وخلقه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “الحياءُ من الإيمانِ، والإيمانُ في الجنةِ، والبَذاءُ من الجفاءِ، والجفاءُ في النارِ” سنن الترمذي: 2009، زيادة على أنه مرتبة يُرتقى بها في شعب الإيمان، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “الإيمانُ بِضْعٌ وسبعونَ أو بِضْعٌ وستُّونَ شُعبةً. فأفضلُها قول لا إلهَ إلَّا اللهُ. وأدناها إماطةُ الأذى عن الطَّريقِ. والحياءُ شُعبةٌ من الإيمانِ” صحيح مسلم:35.
الحياء حياة
هو من سبل الحياة الطيبة في الدنيا والأخرة، وهو المأمن من الآفات والشرور، والحصن من الوقوع في الفواحش والانجرار إلى الرذائل، وهو خلق لتقويم السلوكات المنحرفة وتعديل التصرفات المعوجة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إنَّ ممَّا أدرَك النَّاسُ من كلامِ النُّبوَّةِ الأولى إذا لم تستَحِ فافعَلْ ما شِئْتَ” مجمع الزوائد: 8/30. “..من لم يستح صنع ما شاء على جهة الذم لترك الحياء.. ومعنى الحديث أنه يأمر بالحياء ويحث عليه ويعيب تركه..” لسان العرب: 4/297.
الحياء وسيلة للعفة
لأنه مغلاق للفساد، رادع لشهوات النفس، كابح لنزواتها، وأدواته في ذلك غض البصر عن النظر لما حرم الله وكف اللسان عن الخوض في أعراض الخلق والتنابز بالألقاب والتقاذف بالشتائم وقبيح الكلام، ومراقبة الله تعالى فيما يجول بالخاطر من خيالات النفس المحرمة، وهواجس الروح المضلة، وخواطر القلب الفاسدة، وأفكار الذهن الشاذة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “استَحيوا منَ اللَّهِ حقَّ الحياءِ، قُلنا : يا رسولَ اللَّهِ إنَّا لنَستحيي والحمد لله، قال: ليسَ ذاكَ، ولَكِنَّ الاستحياءَ منَ اللَّهِ حقَّ الحياءِ أن تحفَظ الرَّأسَ، وما وَعى، وتحفَظَ البَطنَ، وما حوَى، ولتَذكرِ الموتَ والبِلى، ومَن أرادَ الآخرةَ ترَكَ زينةَ الدُّنيا، فمَن فَعلَ ذلِكَ فقدَ استحيا يعني : منَ اللَّهِ حقَّ الحياءِ” صحيح الترمذي: 2458؛ حسن.
الحياء خلق الأنبياء
هم الصفوة وهم الأخيار، اصطفاهم الله تعالى لتبليغ دينه وإرشاد الناس إلى الهدى والنجاة، وجعلهم قدوة في أخلاقهم وصفاتهم ومن بينها الحياء، فعن أبي سعيد الخدري قال: “كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أشدَّ حياءً من العَذراءِ في خِدرِها. وكان إذا كره شيئًا عرفناه في وجهِه” مسلم: 2320.
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم مع موسى عليه الصلاة والسلام حينما فرضت الصلاة، قال: “فَرضَ اللَّهُ على أمَّتي خمسينَ صلاةً فرجعتُ بذلِكَ حتَّى آتيَ على موسى، فقالَ موسى: ماذا افترَضَ ربُّكَ على أمَّتِكَ؟ قلتُ: فرضَ عليَّ خمسينَ صلاةً، قالَ: فارجع إلى ربِّكَ فإنَّ أمَّتَكَ لا تطيقُ ذلِكَ، فراجعتُ ربِّي فوضعَ عنِّي شطرَها، فرجعتُ إلى موسى فأخبرتُهُ، فقالَ: ارجع إلى ربِّكَ فإنَّ أمَّتَكَ لا تطيقُ ذلِكَ، فراجعتُ ربِّي فقالَ: هيَ خمسٌ وَهيَ خمسونَ لا يبدَّلُ القولُ لديَّ، فرجعتُ إلى موسى، فقالَ: ارجع إلى ربِّكَ. فقلتُ قدِ استحييتُ من ربِّي” صحيح ابن ماجة: 1156.
الحياء سمة الصلحاء
وهم الذين تعلموا على أيدي الأنبياء والرسل واستنوا بسننهم وأخذوا بأحكام الكتب المنزلة عليهم، فهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي من شدة حيائه من الله عز وجل ومن علو تقواه وورعه، صارت تستحيي منه الملائكة، فعن حفصة بنت عمر رضي الله عنهما: “..فقلْتُ: يا رسولَ اللهِ استأذنَ أبوبكرٍ وعمرُ وعليٌّ وناسٌ من أصحابِكَ وأنتَ على هيأتِكَ، ثم جاء عثمانُ فأخذْتَ ثوبَكَ فتجللَتْ له، فقال: ألا أستَحْيي ممن تَستحيي منه الملائكةُ” موافقة الخبر الخبر لابن حجر: 2/123؛ حسن.
الحياء كله خير
ما خاب من جعل الحياء كساءه وانتهج سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم ومنهج الصحابة الكرام في حيائهم وتمثل هذا الخلق، الذي هو من صفات الله عز وجل، في سلوكه وتعامله مع القريب والبعيد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “الحياءُ خيرٌ كلُّه” مجمع الزوائد: 9/20 (رجاله رجال الصحيح غير عمر المقدمي وهو ثقة)، وجعله ديدنه في حياته، فتكون له مفتاحا للخير والسعادة، ومجلبا للمحبة وفيضا للأمن والطمأنينة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إنَّ اللَّهَ حييٌّ ستِّيرٌ يحبُّ الحياءَ والتَّستُّرَ، فإذا اغتسلَ أحدُكُم فليستَتِر” تخريج مشكاة المصابيح: 425؛ حسن.
الحياء من أسباب رفعة المسلمين
لأنه منبع للقوة ومبعث للعزة والأنفة وهو سبب لعلو الهمة وطلب المعالي والتأفف عن سفاسف الأمور وأرذلها، وفيه الإقدام على قول الحق ولزوم الصواب والميل عن الباطل ومجانبة الزلل، لما يضفيه على المؤمن من وقار ومهابة وإجلال، تقتضي إبداء مظاهر الاحترام والتوقير والإكبار، وما ذاك إلا فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده.
وما نال المسلمون ما نالوه من شرف القيادة ووسام الريادة ومكانة الإمارة على الأمم الأخرى، إلا بحيائهم من تجاوز حدود الله تعالى، واستحيائهم من تعدي محارم الله عز وجل، وتوقيرهم لأحكام الشرع واتقائهم سخط الله وغضبه.
اللهم اجعل الحياء خلقنا وارفعنا به في مراتب الإيمان ودرجات التقوى يا رب العالمين.
والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *